من فضلكم أوقفوا التصوير




جلسة تأملية

الزمان: الحادي والعشرين من شهر أغسطس للعام 2017(21/8/2017). وتحديدا، بعد تسعة وثلاثين عاما من حدوث الظاهرة في مواقع محددة على الخارطة ( آخر كسوف كلي للشمس تم رصده في بعض الولايات الأمريكية، كان في العام 1979)، وبعد مائة عام، 1918،  من كسوف كلي كبير شمل كل الأراضي الأمريكية.
الموقع: خط الكسوف الكليّ الممتد على عرض البلاد؛ ما بين الشاطئ الغربي وحتى الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية.
الحدث: الذروة في القصة حصلت عندما أزيحت الشمس بالكامل في ظل القمر، ولأن القمر جرم معتم فإنه لم يعكس نورا وقتها، بل حجب ضوء الشمس كلية، وكل ما أمكن للشمس أن تحتفظ به هو "الهالة" الضوئية التي تبرهن على اتساع محيطها عن حجم القمر الذي يصغرها بـأربعمائة مرة! كانت دقيقتان وواحد وأربعون جزءا من الثانية ( 2:41) مدة الكسوف الكلي، حين انتشرت الظلمة لتغطي الأرض بتضاريسها: الجبال، والصحراء، والشواطئ، وأماكن الازدحام، وحتى الشوارع الخالية من المارة الذين تحلًّقوا في مجموعات حاشدة لمشاهدة ما يمكن اعتباره لحظة تاريخية لا تكرر في حياة أحدهم، فكل إنسان من الحشود الغفيرة قُدِّر له أن يقف في نقطة ما على طول مسار الكسوف الكليّ؛ كان يشعر بأنه محظوظ لأن يرى الكون مرة أخرى وقد عاد كما كان.. عتمة ثم انبلج منه الضوء!

تغيُّر الطقس

ورغم أن شهر أغسطس مشهور بأنه شهر الصيف القائظ عبر التاريخ والأقاليم، غير أن موجة باردة عصفت بقوة واستقرت على الأرض الواقعة تحت تأثير الدهشة من مشهد عجز الشمس عن أن تُمِدّ الأرض بالحرارة والطاقة الشمسية،  والتي من المؤمل أن تكون المصدر الجديد للطاقة النظيفة لتشغيل مرافق الحياة الإنسانية، وخاصة توفير مخزونا قويا للتدفئة في الشتاءات القارصة والموحشة! هذا لو أضفنا عاملا جديدا للحيرة، من أن الكسوف الكلي قد حدث في ذروة النهار، وقت الظهيرة، ما بين الساعة العاشرة صباحا وحتى الثانية والنصف ظهرا، هذا الوقت نطلق عليه : الرمضاء، لأن الجِمال لا تستطيع أن تلمس الأرض من شدة الحرارة، والأفضل للإنسان أن يأخذ قسطا من القيلولة أن لا يتعرض فيه مباشرة للشمس نتيحة تسرب الأشعة الضارة وخوفا من الإصابة بضربة شمس! فمَن ضرب الشمس الآن!!

 الحيوانات والاستجابات غير المفهومة


الحيوانات ساهمت بدورها في دراما الكسوف، حيث أظهرت عددا من الاستجابات غير المعهودة.
في المشاهدات التاريخية لانعكاس الكسوف الكلي على سلوك الحيوانات، وهي الملاحظات التي تم تسجيلها على مراحل الأعوام: 1239-1560 ميلادية، من قبل بعض المجتهدين. أكدت كيف أن الحيوانات أصيبت بالهلع، وأن الوحوش في البرية أخذت تنفر بقوة في اتجاهات غير منضبطة. كما أن الطيور في السماء كانت تتساقط على الأرض في خوف من الظلمة المفاجئة التي باغتتها! وإذا كان من الصعب العثور على براهين حول هذه الروايات التاريخية، غير أن علماء الفلك ومتابعي الظواهر مثل الكسوف الكلي في عصرنا الحاضر؛ قد سجلوا غرابة في سلوك أنواع متعددة من الحيوانات القريبة الصلة من حياة الإنسان. فالأبقار تركت المزارع وأسرعت للدخول في حظائرها، والحشرات تبدأ بالنقيق المزعج، والطيور تصير أكثر ضجيجا ونشاطا، أما الحيتان في البحار فتقوم بوثبات ضخمة. الضفادع أخرجت أصواتها الخاصة بها، وأما الطيور الجارحة فقد توقفت عن التحليق. إلا أن كل تلك الضوضاء كانت تحدث خلال مراحل وصول الكسوف إلى الكلية، وعند اللحظة القصوى يسود الصمت بصورة مذهلة! أما في غابات زامبيا حيث تم رصد الكسوف الكلي عام 2001، فإن الزراقات أخذت تجري على مساحة المكان خلال لحظة الذروة، أما عند عودة ضوء الشمس فقد عادت للهدوء والرعي من الأشجار مرة أخرى. وأما السلوك الأكثر غرابة فقد كان يأتي من العناكب، حيث تدمر شباكها خلال الكسوف!



الشمس.. الغادر والمغدور

اجتهد العلماء بتحديد كل مرحلة تمر بها الشمس خلال الكسوف، وذلك بمتابعة التدرج في اختفاء قرص الشمس بين أول الكسوف ثم عودته مرة أخرى بعد انتهاء الكسوف. وفي كل مرة، تظهر الشمس بلقطة فريدة وتستحق التسجيل والإعجاب وخاصة من هواة التصوير والشغوفين بمتابعة الحوادث الفلكية.
تأثير الخاتم الماسي- Diamond Ring Effect
قبل حوالي خمس عشرة ثانية من دخول القمر بشكل كامل على منظر قرص الشمس، تطلق الشمس انفجار من الضوء حول الإكليل الدائري المحيط بها، وعندما يكتمل حلول القمر فيها، يظل هذا الجزء المشع محيطا بها وهو ما يسمى "الهالة" أو كورونا، ولأنه يشبه لون الماس وبريقه فقد سميت هذه المرحلة بالخاتم الماسي.
الخرز بيلي- Baily’s Beads


في الثواني الأخيرة ما قبل الكسوف الكلي وبعد بدء انقشاعه، تظهر سلسلة من النقاط البيضاء المتوهجة من أشعة الشمس. وهذه الأشعة تعكس التضاريس على حافة القرص القمري. وهي لا تستمر سوى جزء من الثانية وقد لا يلحظها المتابعون إذ سرعان ما تغمر الشمس بالظلمة تماما.

المشاعل الشمسية- Solar Flares


في الوقت الذي يبدأ فيه القمر بتغطية الشمس تماما، تأخذ المشاعل الشمسية بالظهور على حافة قرص الشمس الداكن. وتنطلق هذه السمات لملايين الأميال في الفضاء حول قرص الشمس، ولا يمكن رصد هذه السمات إلا من خلال أجهزة المراقبة على الأرض خلال اللحظات الأخيرة ما قبل الكسوف الكلي.

كورونا- The Corona


خلال الدقائق التي يغطي فيها القمر قرص الشمس بالكامل، يستطيع المتابعون أن يخلعوا النظارات ذات الحماية الخاصة، وأن ينظروا مباشرة إلى قرص الشمس دون خوف من حدوث أضرار على البصر. ما يراه المتابعون من هالة تمتد مئات الأميال في الفضاء هي ما يسمى بكورونا، أو الإكليل خالصا من أي تأثيرات أخرى. وهذا ما يفرق بين ما يظهر من كورونا في هذه المرحلة والمرحلة الأولى حيث يلزم في بدايات الكسوف أن يتم ارتداء النظارات المحمية عند النظر إلى قرص الشمس.

الكواكب والنجوم في مجرتنا لها حق الظهور أيضا

في طور كورونا للشمس، وعندما يسود الظلام كل احتمالات النهار، تصبح السماء سوداء بدرجة تمكّن الكواكب والأجرام السماوية القريبة منا من الظهور بوضوح. إن الكواكب مثل: عطارد، والزهرة، والمشتري، والمريخ، تظهر في منتصف المساحة السماوية حول الكسوف تقريبا. وفي معية هذه الكواكب تُشاهد المجموعات النجمية على عرض مسافات متقاربة أو متباعدة من بعضها.


 والآن، أوقفوا التصوير .. من فضلكم

 التغطية المباشرة

وصلني على حسابي على توتير، تنبيها عن التغطية المباشرة التي تقدمها موقع مجلة ناشيونال جيوغرافيك على حساباتها الاجتماعية، كانت المتابعة لحظة بلحظة تجربة فريدة بالنسبة لكل من تابعها، وخاصة من المشاهدين خارج أمريكا حول العالم. النقاشات التفاعلية بين المتابعين ، ثم الحوار العلمي بين الضيوف في موقع المراقبة من أرض الحدث، منح الشعور بالتواجد في قلب الحدث نفسه. وفي تصوري أنها كانت لحظات تأملية اختلطت فيها المشاعر والأفكار. لقد وجدت عبر المتابعة أن قسطا غير يسير من الرؤية الإنسانية للظواهر الطبيعية وخاصة الظواهر الخارقة مثل الكسوف الكلي، يعتمد على ما يولده الاتجاه الفكري لدى كل متابع. وحتى الذين اعتبروا أنها ظاهرة ستمضي كحدث إعلامي لأنهم لا يعتقدون بتأثير فعل الله في هذه الظاهرة، لم يتمكنوا من ضبط مشاعر القلق أو الخوف أو الدهشة من عظمة هذه الظاهرة التي تجعلنا نؤمن بدقة مراحلها أن هناك تنظيما لم نتمكن بعد من استكناه مداه رغم كل آلات الرصد والمعرفة المستخدمة.

ومن الطريف أن نسجل المشهد لحظة الكسوف الكلي..

المذيعة : إني أشعر بالرعب، لا أستطيع التوقف عن البكاء! انظر، إنها كورونا، رائعة جدا.. إنه أهم حدث في حياتي ..تهانينا لكل من استطاع أن يشهد هذا الحدث!

العالِم الفلكي : لقد حدث الكثير من الأمور في هذه اللحظات، لقد مرت بسرعة جدا وكأنها ثوان معدودات! أريد من الناس أن يتوقفوا عن التصوير، توقفوا عن التصوير رجاء، واستمتعوا بمتابعة منظر الشمس وكورونا، إنها الشمس وغلافها الجوي.. منظر لا يصدق!


انتهاء الزمن

ولكن ما قيمة الهوس تجاه مراقبة الكسوف الكلي للشمس؟
مع الوصول إلى نهايات الكسوف الكلي، سيشرع المحتشدون في لملمة حقائبهم والتوجه إلى مواقف السيارات والحافلات للرجوع إلى استكمال يومهم. ولكن الشعور بالابتهاج لا يفارقني! ولم لا، فإنه زيادة على أن ما شاهدته كان مذهلا، فإن هذه الدقائق الثلاث أو نحوها قد منحتني الأمل! فقد قدّم لنا الظلام الذي غمر أمريكا هدية رائعة: التساؤل! ( أحد المتابعين من موقع الحدث)
ولعل تعليق مذيعة البث المباشر كان خطيرا حين قالت : أن من يشاهد هذا المنظر ويعيش هذه اللحظات، لا بد وأن يدرك أن لا وجود لليأس ولا الإحباط بعد اليوم.

-------------------------

مصادر المقالة:
موقع ناشيونال جيوغرافيك: حيث تم تخصيص صفحة كاملة حول مقالات وصور خاصة بالكسوف الكلي 2017، الرابط:

هاشتاق ناشيونال جيوغرافيك حول الكسوف الكلي:
تسجيل البث المباشر على يوتيوب:
https://www.youtube.com/watch?v=oLBwibYSzEk

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )