العلاقات الاجتماعية تبدأ من أنا -6-



(6)

ماضينا وعلاقاتنا

إننا كائنات زمنية، نتقن الرحلة عبر الزمن، فما بين أن نعلق في ماضينا، أو ننغلق على حاضرنا، أو ندفع بقوتنا نحو المستقبل
ولأن استلهام الدروس مما مررنا به يأخذ تدريجيا في كل الأزمنة شكل السياسة الخفية لتفاعلاتنا مع حياتنا؛ فإن استحضار الماضي يتحول ليصير صاحب السلطة الأعلى لتشكيل الواقع والقادم معا.
إن بعض السلوكيات التي تظهر من خلال المعايشة الطويلة ضمن العلاقة الواحدة؛ لا تتكون على الحقيقة داخل جسم العلاقة ذاتها، وإنما نحن جلبنا أنويتها ونواياها من سجلات قديمة لم تُقضَ آجالها في وعينا وذاكرتنا.
فمثلا، عندما يزداد الشك بين الأطراف فيأخذ طابع التهديد لاستمرارية العلاقة، وعندما يصير للكلمات مدلولات غير عفوية لها محمل بريء ، وعندما تشتد حدة القلق عند أحد الأطراف جراء  العيش في هاجس أن الطرف الثاني قد يتخلى عنه مع أول اختبار ، أو الشكوى الدائمة بأن ثمة مسافة لم يتمكن أصحاب العلاقة من تجاوزها بينهم فوجدت فيها الأفكار السوداء والمشاعر المضطربة مرتعا للمخاوف الصادقة أو المكذوبة، ثم ذلك التشاحن غير المبرر حول تنازع المسؤولية في استقرار العلاقة أو إنهائها، أو الاضطرار إلى العيش بقانون الاغتراب فيما يفترض أنه وطننا الذي اخترناه عبر بناء هذه العلاقات..إلخ، كلها مؤشرات على أن الماضي يعيش معنا علاقتنا ويجد ألف وجه ليظهر أمامنا متمثلا في شخص الطرف الآخر؛ لأننا لم نعزم إرادتنا على التخلص منه.

الماضي في تجاربنا المستقبلية وخاصة في حيز العلاقات الاجتماعية يتجدد بأشكال متداخلة أو منفصلة

  • أولا: قسم يرجع إلى شكل التربية أو مفرزات البيئة المحيطة التي نشأنا فيها
  • ثانيا: قسم يرجع إلى خصائص الشخصية أو أنماطنا الذاتية أو ما نرسمه لأنفسنا في مرحلة مبكرة من صورة نتقيّد بها ونظن أننا غير قادرين على التحرر منها.
  • ثالثا: قسم يرجع إلى ظروف طارئة وجدنا فيها أنفسنا مضطرين لمواجهة أمور هي أكبر منّا، أو لا نملك خبرة سابقة عنها من بيئتنا الصغيرة؛ وهذه غالبا ما تشكل صدمات الطفولة أو الماضي.
فيما يلي نستعرض قصصا حقيقية لأناس لم يتمكنوا من التخلص من تأثير حضور الماضي في علاقاتهم الاجتماعية مما استلزم معه أن يراجعوا العيادات النفسية والاستشارات الأسرية لأن هذه العلاقات صارت قيد الانهيار بفعل الذاكرة الماضوية
النموذج الأول: الهروب قسرًا
(قصة صوفيا وباث)
صوفيا وباث متزوجان منذ ما يقرب من عامين، يعيشان حياة يجمعهما فيها التوافق في الحب والطموح نحو التطوير ليخلقا لهما حياة زوجية سعيدة. تحدث باث من أن المشكلة التي يعاني منها منذ بداية زواجهما، هي ردة الفعل التي تبديها صوفيا في كل مرة يستلزم عقد نقاش حول أي أمر من أمور الحياة. يقول باث: تنعزل صوفيا تماما لأيام، ملامح وجهها يكسوها الجمود ولا تبدي أي نوع من التأثير، وبالكاد تتحدث عددا محدودا من الكلمات كنوع من التعليقات العامة والتي قد لا تمت إلى المشكلة بصلة، حتى لو حاولتُ أن أقترب منها أو أعتذر لها أجدها ترفض ذلك.. إنها أشبه بمن يهرب هروبا صامتا
صادقت صوفيا على كل ما قاله باث، وهي في قرارة نفسها تعرف أنه وضع غير سويّ من أن لا تكون قادرة على عقد أي محادثة جادة مع باث، ولكنها في ذات الوقت تمسكت بشدة بعدم رغبتها في تغيير طابعها الحرِج،  وتوجَّهت بكلمات حازمة إلى باث، قائلة: أنا هكذا، فاقبلني كما أنا لأن شيئا لن يتغير
تحدثت صوفيا تفصيليا عن طفولتها. فقد انفصل أبواها حين كانت في الثالثة من عمرها، وعاد أبوها إلى بلدته ولم تره بعدها. كانت أمها وبفعل أنها صارت  امرأة مهجورة ومعيلة للعائلة ، تتعرض لحالات شديدة من تقلبات المزاج، فتارة تكون في قمة السعادة والحب لابنتيها، ثم وبغير سابق إنذار أو سبب واضح، تنفجر غضبا وعنفا وتدمر كل شيء على مقربة منها، حتى أنها طردت صوفيا البالغة من العمر وقتها سبع سنوات ، وأختها الصغيرة ذات الخمس أعوام، من البيت في أحد الشتاءات القارصة لساعات خارج البيت، وما تزال صوفيا تذكر شعور الخوف والعزلة والبرد الشديد الذي عاشته مع أختها في تلك الأجواء القاسية
تقلّدت صوفيا نمطا ثابتا من السلوك تجاه تدهور مزاج والدتها، حيث كانت تلتزم الصمت وتنعزل في غرفتها و تحاول أن لا تبكي أو تبدي أي ردة فعل من شأنها أن تزيد من غضب والدتها حتى لو ضربتها أمها بالملعقة الخشبية على رأسها لدرجة أن تنزف
قالت صوفيا بالحرف الواحد: أن طفولتها قد رسخّت لديها فكرة أن العالم مكان شديد التقلب وغير آمن، ففي أي لحظة قد تنقلب الأمور رأسا على عقب دون تفسير واضح!
واليوم، وقد صارت امرأة راشدة، ما تزال تشعر بذات الاضطراب تجاه التغير في سلوكيات الأفراد حولها، حتى لو كان هذا التغير طبيعيا بحسب الموقف، ويحدث من أقرب الناس إليها والذي لا يحمل أي نيّة سيئة أو رغبة عنيفة؛ وهو زوجها باث. إنها تعيد لعب ذات الأدوار القديمة في علاقاتها اليوم: الهروب والصمت والعزلة.. وإحياء ملمس التجمّد على ملامحها وسلوكها

المعالجة

يتطلب العلاج من الزوج أن يفهم أنه يتعامل مع زوجته الخائفة! إنها بحاجة مستمرة لمن يبث فيها فكرة الأمان والاستقرار والثقة، ويجب على الزوج أن لا يتعرض خلال حديثه معها  لفكرة الانفصال أو تحطيم العلاقة أو الرحيل، مهما ساءت الأمور. إن تشجيع الزوجة هنا؛ على الحديث والاستماع الهادئ  من قبل الزوج حتى لو كان الموقف انفعاليا، وتحمُّل التشنجات  غير المستحبة خلال الحوار والتي عادة ما تنتج عن استدعاء غير قصدي لخيالات الطفولة، من شأنه مجتمعا  أن يعيد بناء النظرة الإيجابية تجاه الشريك الذي نعيش معه، لأن إحلال الأمان مكان الخوف هو الذي يقدم الشفاء من تبعات الماضي، ثم ضمان استمرار العلاقة العاطفية مستقبلا
--------------------------
النموذج الثاني: الدائرة الخاوية: اسحب- ادفع

(قصة جون وَ براندا)

عاش جون فترة المراهقة في اضطراب مع تقبل شكله الخارجي، كان يقف كل يوم أمام المرآة ويصف نفسه بكل ما تسعفه لغته من الأوصاف السلبية التي تنصب على النقد القاتم لتركيبته الكلية، من مثل: أنا سمين ولن أكون رياضيا مثل اللاعب (س)، أنا ضعيف الشخصية لذلك لن أستطيع مواجهة الطالب المتنمر(ص)، أنا غير جذاب ولن أحصل يوما على علاقة جميلة مع أي امرأة
وكسلوك من رفض الوجود، طوّر جون بجوار جلد الذات نفسيا؛ عادة قبيحة من التعذيب الجسدي، حيث كان يجرح نفسه بموس الحلاقة أو يضرب نفسه على شاكلة ما كان يفعله قديما رهبان نزعة التطهير في العصور الأوروبية الوسطى، ولا يتوقف حين يشعر بالألم الجسدي، ولكن حين يتعب عقله من اختراع انطباعات خيالية حول كيف أن الحياة ترفضه جملة وتفصيلا
ارتبط جون بعدما كبر ببراندا، وكانت الحياة بينهما تأخذ حلقة تداولية الأدوار من الشد والجذب، كان كل طرف يأخذ مرة زمام المبادرة ليضغط على الطرف الآخر ليصل به إلى الانصياع التام أو إبداء ردة الفعل المطلوبة، ثم ما يلبث الطرف الآخر أن يقوم بذات الدور عند استحداث ظرف جديد، وهكذا تظهر الدورة المعيشية بينهما تصويرا مبتكرا لدورة غريزة الصراع على البقاء الفطرية
إن سيطرة سلوك "الضحية" والمضطهد والمنبوذ؛ الذي التزمه جون فكريا ونفسيا على مدار حياته، جعل عليه من الصعب التعامل مع زوجته على مبدأ مساواة  توزيع المواقف، فهو عند كل مشكلة تنشأ بينهما يقوم بتحويل أسباب المشكلة لتصير وجودية بحتة تتعلق بموقف الحياة الرافض له مبكرا؛ "لقد عاش طوال عمره منبوذا، وهكذا سيستمر الأمر إلى ما لا نهاية!". إنه ينمي داخله وسواس الاغتراب الشديد مع الطرف الآخر حتى لو كان ملازما له طوال الوقت، وكأن ثمة ثغرة عميقة لا يمكن تجاوزها في التواصل بين الطرفين

المعالجة

لا مفرّ من أن يقتنع الطرفان، وكذلك المجتمع، أنه لا وجود للمثالية في حياتنا البشرية! لا وجود لطفولة مثالية، ولا وجود لشخص مثالي، ولا وجود لعلاقة مثالية. إن قدرنا أن نكافح للوصول إلى الأفضل بحسب ما لدينا من قدرات. ونظرية الدائرة بحد ذاتها ليست سيئة ، لأننا فعلا نعيش في دوائر حياتية نتبادل بها الأدوار مع من يلازموننا العيش زمنا طويلا، ولكن المهم أن ننجح في تشكيل هذه الدائرة لا لتكون مركز تجمعٍ لكل عراقيل الماضي وذكرياته السيئة، بل أن نتحول بهذه الدائرة لتصبح "الفضاء النقي" الذي نبرهن على أنه مساحتنا الخاصة نعيد بها بناء شخصياتنا بطمأنينة مع طرف آخر يهمه أن نكون على أحسن حال.  إننا مخلوقين بدافع مدني، لنُنشِئ علاقات تدل على موهبتنا الحيوية في التجاوز وإعادة تشكيل الحياة اللائقة بنا
إزالة الغموض السادس: كل علاقة هي حياة، والحياة ليست مكونات منفصلة أو محايدة، ولكنها ظروف تندرج تحتها  وجودات متعددة تسعى فيما بينها  إلى بناء محضن آمن، تتراكم عبره النهايات المستقرة لكل فرد تشمله العلاقة، وكل ما يتعلق بالماضي الخاص بأفرادها ما يلبث أن يصبح من شأن المجموع التعامل معه بحكمة وروية، وإذا كان الماضي قد فات زمنا وما يزال يعيش في داخلنا حالا، فإننا قد لا نحتاج لأكثر من قرع الداء بالداء، بمعنى أن نجد من يمنحنا زمنا حاضرا ومستقبلا مليئا بالفرص الإيجابية، لنتخلص من زمن ماضٍ ازدحم في نفوسنا سلبا ونقصا وخوفا  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )