Geek is not Geek

 



هل يبدو العنوان مقلوبا على نفسه ومستغربا!؟ لم العجب، هذه هي حياة "المكرّسين" للنمط الواحد!

إنه يشاهدون الأمور بلا عناية، ما دامت لا تقع في مجال اهتماهم. فلا بأس حينها لو كانت متضادة أو متكلفة أو ربما غير رصينة! في تفاد لوصف غير عقلانية، لأن التعقل لا يدخل مطلقا في فلسفة التكريس. 

حضرت بالأمس ما يفترض أنها محاضرة أو ورشة عمل استمرت ما يقرب من خمس ساعات، حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، أو ربما حتى أولى ساعات اليوم التالي، كما أرجو أن يجمِّل هذا الوصف حجم الكارثة التي أرهقت فيها كياني كله!

ولكن كان  أول ما استوقفني هو تلك الفكرة المقيتة التي التصقت بنا منذ الطفولة: بأن من يريد شيئا عليه أن يضحي بكل شيء لأجله! عليه أن يسخر كل قواه له؟ عليه - وبكل ما في المصطلح الديني المسيحي من مقصود - أن يكرِّس نفسه له؟!

التبجيل من صورة "المهووس" في مجال العلم والأدب، والإبداع عامة في كل المجالات، قد ابتنت يقينا كارها لوجهه الآخر داخلنا: وهو أن التفوق والنبوغ لا يكون إلا مع الهوس بما نحن في خضمه؟ على الأقل هكذا قال لي أحد أسانذتي يوما: إنك لن تحصلي على الدرجة العلمية حتى تصبحي "مهووسة" بهذا العلم؟! وقد حصلت على الدرجة العلمية، ولكن خان هذا الأستاذ معتقده بأن شهادته العلمية كانت زائفة من كل الجهات، بما في ذلك فكرته عن الإيمان بالهوس كوجه وحيد لإبراز الإخلاص للمعرفة، أو حتى استحقاق الظفر بها. 

وفي حياة تتضخم بقدر ما فيها من التقنيات، يبرز لنا المهووس التقني بصورة الشاب الذي لا يترك هاتفه الذكي، ولا حاسوبه الشخصي، إنه وحده الأصم عن العالم كله، والمنغمس في صخب نفسه ، وحده ذاك الذي يخترع لنا التقنيات وهو يصر بأنيابه على لوحة المفاتيح في أبشع صورة للخالق غير المتقن  لصنعته/ فلديه ذلك الهاجس المجنون بأنها ستتركه حين تكتمل؟! 

ولهذا الميزان المطفف بين الهوس والتفوق، كنت ألوم نفسي مرارا وتكرارا على شعور "الملالة" الذي يسحبني من كل أمر أشحذ له كامل عدتي لأنغمس فيه بالكلية. هذا الهروب القسري، ولعلي أجده الفطري النقي، "حماني"-نعم هذا هو اللفظ السليم- من الوصول إلى الجنون في الكتابة، بالتصور الذي حصل مع كبار الكتاب الذين أنهوا حياتهم في الكتب قبل أن ينهوا أجالهم بالانتحار أوالجنون أو حتى إفراط التقديس والشهرة. فما هذه الأحوال كلها سوى اختيارك بأن تصبح غير أنت على طريقتك أنت!

وما أقوله عن النجاة من هوس الكتابة، يشمل كذلك كل ما التحقت به من دراسة وعمل أوحتى علاقات اجتماعية أو تجارب ذاتية، إنه شيء يدفعني إلى الفرار من الإغراق، جرس تنبيه داخلي له كامل السيطرة على سحبي من الوصول إلى الحافة، فضلا عن الوقوع أو السفوط!

وكما ذكرت أعلاه، ظننت أن هذا قد يمنعني من التخصص في مسار محدد أحقق فيه النبوغ. وكان الأمر أشبه بالعقدة النفسية التي تزيد حدتها كلما جاورت تحت أي ظرف أولئك "المهووسين" فيما هم فيه. 

ولكني بالأمس، أدركت أن هذا الهوس ليس بإنساني مطلقا! 

أو ربما اكتشفت، بأن هوسي العميق على مدى السنوات كان بالخلاصة: في تحصيل التوازن بين مختلف الاتجاهات، عوض الغرق في بعضها،  أو إتاحة نفسي أن تسلبني إليها. 

لا تقلق إذا لم تكن مهووسا بما تصنع أو تتعلم، فالهوس ليس بالفضيلة تحرص على اكتسابها، كما أنه لا علاقة له بالقطع، بمدى إتقانك لما تصنع أو تتعلم. بل عليك أن تتحقق من أن السير الذاتية للمهووسين في كل المجالات كانت تشف عن "خوف" من مواجهة شيء ما داخلهم، لعل أبرزه: أنهم يخافون اتساع الحياة الذي يأتي مع التوازن! فالحياة لم تخلق بوجهة نظر واحدة، ولم تخلق بصيغة وحيدة كلية، وليس من شأنها أبدا أن ترينا وجها واحدا فقط. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )