اللا-كتابة

 



لقد باتت اللحظة مواتية لأن أتوقف عن الكذب على الأفكار! 

في الدورات الزمنية ، هناك ما يتغير في مزاج الحياة كما في أهلها. اتجاهات جديدة في كل شيء تطفو على السطح ما تلبث أن تلغي ما سبقها: قوائم طعام حديثة، اتجاهات جديدة في الفنون، تصميم مختلف للمباني والملابس والأذواق عموما، عادات وليدة تحكم حياة الناس، نظريات وأطروحات تتجه نحو آفاق غير مطروقة في حياة الفكر، مشاعر غضة تتفجر كأحدث اكتشاف للإنسانية المتجددة. 

من هذا أيضا، أن يصبح اهتمام الأفكار مختلفا عن المستقر والمتداول. وليس في هذا رفض للقديم، أو ما يوشك أن يصير تأريخيا، فنحن لا نرفض الإرث والمتوارث، كما لا نأخذ بالعصرنة لمجرد أنها حديثة! الأمر أكبر منا كلنا. 

إنه تتابع يحصل في الجسم الكوني الجامع لكل العوالم، إنها قوى تعمل على الدفع إلى افتتاح مسارب جديدة للحياة، لأن أوان التحولات قد استدعى كل سحره، ولن يتوقف حتى ينتقل الانتقالة القادمة. 

وفي حيثية ما يستجد جِدَةً لا يُعلم منتهى قرارها، يجد الكاتب نفسه في غربة عن لغته وفكره! إذ لم تعد لغته القديمة سائغة للتعبير الموافق، كما لا يزال فكره غير قادر على استجماع ذاته من اتساع الشباك على قلة ما فيها من فهم. إنها حالة من المائية يتعذر التنفس بين أدوارها المتغيرة.

يصير الكاتب يكتب -فقط- لحفظ موهبته، إنه قد بات يخشى من أن ينسى الكتابة، فالكتابة فن من التعبير القابل للاندثار ما لم يعالج ما هو حقيقي وأصيل. 

على الجماهير أن تقبل من الكاتب هذه الهنات البطيئة، فهو يحاول أن يفهم كيف صارت هي نفسها بهذا الاندفاع حتى سبقت نفسها دون أن تسابقه. لقد اعتاد الكاتب من نفسه أن يكون الضمير الحي للحياة، والرشد الذي يعالج أمثولاتها، والبقية الباقية من أصالتها حتى لو انقلبت بها هويتها! لكنه اليوم لم يعد يعرف كيف "يحدث" ليصير في ذاته "حدثا" جديرا بالملاحظة!؟

سنقرأ عجبا في هذه المرحلة، هناك - الكاتب - الذي انكفأ على نفسه فصارت أمنيته أن يكشف لنا أمانيه وحسب. صورة للعامل باليوم، الذي يحصّل فكرة "اليوم"، ثم يترك ما يترك لغد لا يعرف بماذا يأتي. 

وهناك من استمر ينحر تاريخ كتابته عبر الاستمرار في نبش تراثه، فهو غير قادر على احتواء المستجد، ولأن سابق كتابته قد أحله مكانة لا بأس بها، فهو مستمسك بالماضي غير مريد الانفلات منه. 

أما القسم الثالث، وهو أنا وكثيرون، فإننا نحاول، وما نزال نحاول أن نفهم أين تستقر الكتابة في كل ما يروج من أطروحات على مسرح الكتابة نفسه. فالكتابة قد آلت متخصصة كالمهن، ولم تعد تلك الكتابة الجامعة لما لا تتناوله المهن. 

وحتى يحين الوصول إلى شرعية تبرهن لكتابة ملائمة، دون أن تفقد اعتبار القيمة الجوهرية للكتابة، ستظل السطور هنا، وفي منشورات عدة، تشاكس نفسها وقارئها، ولربما لأجل غير مسمى.. حتى اللحظة. 

شكرا، ألف شكر، لاستمرار القارئ في قراءة اللا-كتابة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )