كي نَــكتب ما لم يُكتَب بعد


تخيل أنك تجلس وسط عتمة كالصورة أدناه، ثم طُلِب منك أن تكتب أي شيء، فكم فكرة، وكلمة، وأطروحة سترهّل بها مخيلتك!؟



تخيل الآن أنك تجلس وسط بياض ساطع كالصورة التالية، ثم أردت أن تكتب؛ كم فكرة، وكلمة، وأطروحة مختلفاتٍ كلها ستتضافر على عقلك؟!



الجواب واحد في كلا التخيلين، وهو: أنك قد تكتب، ولكنك لن تكتب الكثير! فالمخزون من الخيال ينفذ في شدة السواد، كما لا يستقيم بدون زاد حتى مع أشد الحقائق نصوعا.
انتقل الآن خارج حدود ظرفيتك الآنية، تخيل أنك تسير في السوق، تركب الشاحنات المزدحمة، تنتظر في العيادات الخارجية، تحضر دروسا وورش عمل ومحاضرات من شتى مشارب الثقافة، أو في أقل الهيئات أنك تجلس في نافذتك أو شرفة بيتك المطلة على ما يموج من شؤون العالم والناس. هل هذا الوضع يجعلك أشد تيقظا لسرقة ظروف الآخرين فتحولها أولياتٍ لكتابات جديدة؟! ربما..
عُدْ الآن إلى حياتك وقسها بمنطق الحياة نفسه، هل تأكل حين تجوع، هل تنام حين تتعب ، هل تأرق أحيانا، هل تشعر بالسعادة عند حلول الأعياد، هل تدخل في حوارات وجدالات مع محيطك القريب، هل تشعر أنك تمتلك ما يملأ مخزونك الداخلي لتشعر بوجودك الحيوي على أحسن ما يكون،  مثل: الحب، الصداقة، العمل، التعلم، الرياضة، التفكير، الضحك.. والبكاء؟! هل مرورك بالأنماط المتقلبة في حياتك اليومية أو الأسبوعية ، المعتاد منها والمفاجئ، يمتلك تلك القدرة الهائلة على أن يجرُّك إلى الكتابة من أعظم ممانعتك وكسلك وضجرك!؟ ربما..
في الاحتمالات أعلاه، ما بين المفترض والحقيقة، أو الواقع والمأمول، أو المنفى والوطن، يتضح أن المخيلة في الكاتب إنما تستمد قلقها من سمة وحيدة ، سمة لا غنى للكاتب عنها، ولا أي إنسان يريد أن يعيش مبدٍعًا في أي مجال؛ إنها "الحياة" ، الحياة هي وقود الكتابة حتى لو ظننا أننا نكتب حين نخرج من الحياة، فهو خروج مراقبة لا خروج اعتزال.
على عكس النظريات المتأرجحة ما بين الذكورة والأنوثة، فإننا سننظر للحياة في فعل "البَذْر" ذكوريا، وسنعتبر الكاتب أو الكاتبة على أنه "المستقبِل" وَ "المنفعِل" أنثويا، واللاحقة الأنثوية والذكورية هنا إنما هدفها الوصول إلى مرحلة التخلق "الجنيني" الذي لا يتم في  عزلة عن تلاقي المؤثرين: الحرث والأرض، أو الحياة والكتابة.
إن الحياة تحرق ذاتها في فكر الكاتب، كما أن الكاتب يحترف مهنته في خصيصة "الحيا" في الحياة. وفي خضمٍ لا نفكك أبعاده بين فعل آخذ وفعل متلقٍ، ثم يعود الآخذ مانحا والمانح مقتبسا، تتداخل الأدوار ما بين الحياة المختلطة والكاتب الوحيد، في تهيئة عنيفة لرؤية غير مسبوقة تقدم فلسفة لم تكتب من قبل عن أثر الحياة في أهلها.

إننا في كل مرة سنكتب ما لم يُكتَب بعد؛ عندما نخوض الحياة ونخبرها كما لم نصنع في كتاباتنا السابقة، فكل كتابة جديدة إنما هي حياة أحسنا عراك خطوبها وقراءة  نماذجها المدهشة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )