قراءة الأسرار

رمضانيات ( 1) العام 1434هـ

من أخفى وأظهر الدروس التي نتعلمها من رمضان ، هو اكتساب القدرة على قراءة الأسرار . إن الكون ينفتح طواعية في هذه الأيام المباركة ، وتتعاون الدنيا والآخرة ، لتجلوان عن إرادة مستورة لا يدركها إلا من فتح قلبه لتلقي الإشارات من الوجود الأعلى سبحانه .فالجنان تفتح أبوابها ، والسماوات تشرع على أشدها لصعود الصلوات ، والنيران تغلق أبوابها وييأس من جحيمها الخطّاء ، ويستوي زمان الأولين والآخرين ، بل لدى كل الكائنات في الدنيا والآخرة ذات اليوم : صباحه ومساؤه ، ليله ونهاره ، أقماره وشموسه ، فبعد أن كانت الآخرة شيئا بلا حساب من هذا الزمن الدنيوي ؛ إذ بها تشهد بأوج بهجتها عروسا على شهود القلوب لحضور الغيب الأكبر بنفحاته ورحماته . ولعل هذه الأيام هي الوحيدة في عمر الدهر التي تتساوى فيها الأرض بالسماء ، فما عادت الأرض وكر الخطايا وفيح السيئات قطّ، بل إنها حالت إلى منبع من الأعمال النورانية تتنظرها السماوات وتغتبط بها انشراحا وكشفا .
أعظم الأسرار انسدل على الكون في رمضان بدءا وانتهاء ، فالقرآن الكريم الذي هو كلمة الله إلى الإنسان شهد تنزله الأعظم من السموات العلى إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، وشهد تمام مراجعته واكتماله كذلك في رمضان ، وهكذا هي رحلة الدين ابتدأت من الزمان وتتجدد كذلك مع الزمان كلما دار رمضان دورته . إن انفتاح الكون المنظور وغير المنظور أمام رمضان يجعلنا في حالة من الامتلاء لاجتلاء الأسرار التي ينكشف عنها افتراج الزوايا التي كانت حتى عهد آخر ليلة في شعبان ، كنزا مكنونا ، وإذا كان هناك ثمة عطاء في رمضان يزيد على عطاء الثواب من الصلاة والتعبد ، فهو تلك الكشوفات التي يلتقطها القلب كل ليلة ؛ بل مع كل نفس في ساعات رمضان ، لتعمر له زادا لا يناله في أيامه الباقيات . لذلك علينا ألا نعامل رمضان بمنطق العادة ، ولا بمنطق الربح والخسارة ، ولا بمنطق العبيد ولا التجار ، بل نعامله بالحرية .. بالبركة ... بالسرّ!
لماذا لا نتعلم من رمضان أن نقرأ نفحات الله بروح الله ، الم يعلمنا الله تعالى أن نقرأ القرآن بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، إننا حين نقرأ نفحات الله سواء في القرآن والرسالات ، أو في مناسبات الزمان أو بركات الأمكنة ، أو تصاريف الأقدار ، فإننا في الحقيقة نستبطن سر الله الخفي والمتجدد في حكمته من الخلق وتسيير الوجود . وأن نقرأ بسرّ الله فيما أراد هو أعظم فهما من أن تقرأ سر الله فيما أوجد وخلق ، لأن الخلق الكوني مفتوح أمام الخلائق كلها ، وأما مرادات الله فإنها مغاليق إلا على من صفا وارتقى وكاشف وجلّى .
لنتعلم أن نلتقط دروس النور من حديث الله لنا في مراحل التطهر التي نقطعها خلال رمضان ، فما أسمى من الإنسان ليستعد للتلقي عن الله حين تجتمع بركة الزمان وتعقد إرادة الله أمرها على اصطفاء من تشاء لما يشاء سبحانه .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )