الكاتب والمكتوب

 


اليوم لدينا مشكلة حرجة في مطلبنا الثقافي والمعرفي - على قاعدة توسيع المعرفة عبر القراءة- ومثار هذه المشكلة: أننا لم نعد نجد شيئا جديرا بالقراءة بحيث يبني لنا وجهة نظر ورأي وانطياع ما عن حياتنا؟! ذلك أن  نواة الثقافة، ليست الثقافة في تراكم العدد المقروء من مصادر القراءة، ولكنها فيما طبعت هذه الثقافة على ذائقتك الأدبية والرؤيوية بما تجدك به تثرى وتنضج. 

هل أننا قرأنا كل شيء كان يستحق القراءة، واليوم لا شيء يستحق القراءة حقا؟!

لن أعيش نوستالجيا الماضي، عندما كنا نسابق العمر لكي نقرأ من هنا وهناك، مع قوة زحمة حياتنا ما بين الدراسة وملاحقة أسباب العيش -أحيانا - مع ما نحمله من الانتقال بين المراحل العمرية من أعباء. ومع هذا، كنا في جنون أن نعثر على مادة نقرأها ونناقشها في عقولنا، وتذوب نفوسنا فيها عشقا مع آخر سطورها. 

ولن أقرر هنا بأن الأجيال الجديدة من الكتّاب والمنشور من الكتب هو من الركاكة بأن أصبح النشر جانيا أكثر منه ضحية، ذلك أن المشكلة بدأت مبكرا حتى في عصر أوج القراءة، لنقل عصر نجيب محفوظ وأنيس منصور وغيرهم من الكتّاب في تلك المرحلة التي شهدت شباب الكتابة حينها الخارجين من ظل طه حسين والمنفلوطي وزكي مبارك والكثير من طلائع الثقافة العربية المعاصرة في كل مكان. 

ولعلي أقول أولا أن تحديد الأسماء ليس أكثر من تحديد الفترة الزمنية، وقد يكون في بعض الأسماء خيرا من آخرى لم يتم ذكرها. 

إلا أن الملاحظ على تلك المرحلة - السابقة مباشرة لجيلنا الحالي- أن ثمة ملامح كانت تنسج في مجملها نوعا من "العبث" الذي أخذ عاجلا شكل الاهتراء في حركتنا الثقافية وما تفرزه المطابع ومنصات النشر من نتاج ثقافي. 

السيماء الأولى: هي تسليع المنتوج الثقافي ومن ورائه الكاتب نفسه. إننا اليوم نقف بشدة أمام هجمات "الأكثر مبيعا" القادمة مع كتب المكتبات الغربية كونها ترويجا تجاريا قد تفتقرإلى التحكيم الأدبي الأهم في المنتوج الثقافي. ومع هذا، فإن شيئا من هذا كان سائدا في عصرنا السابق، فليس كل الكتّاب من كل الاتجاهات كانت تتم القراءة لهم، ذلك أن عددا محدودا من الكتّاب كان يسود الطيف الكتابي، وكانت الملاحقات القرائية تتم لهم على صفحات الجرائد وعلى رفوف المكتبات. ومع تراكم الزمن اليوم، لا نراهم خير ما كان قائما في ذلك الزمن!

السيماء الثانية: فرض الاتجاه الواحد في مجمع النتاج الثقافي العربي. ذلك أن حياة دولة عربية واحدة كانت الروح المسيطرة على قرائح الكتّاب وكذلك ذائقة القراء في كافة البلاد العربية. فحارة تجيب محفوظ سيطرت بتقاليدها لا على مصر وحدها، بل على مجمل نظرتنا إلى الحارة العربية، حتى لو كانت "حاراتنا المحلية" بعيدة كل البعد عن فتوات حارة "ولاد حارتنا" مثلا. وقس على هذا، الأدب المكشوف من روايات الخيانات الزوجية وتحرير المرأة وترويج تقاليد الطبقات الدنيا، مما كان شبه معدوما في باقي الأقاليم العربية، ولكن الخطورة في ذلك، أنها قد صارت ثيمات مفروضة للكتابة. وصار الكتاب المطبوع لا بد وأن يمر في منظومة ثابتة من الأفكار حتى يتم الإذن بطباعته وتداوله،  ولو كان الأمر خبط عشواء من تصب!

السيماء الثالثة: الأثر المبيد الذي تركه الإعلام المرئي-السينما والتلفزيون- على ذيوع مناهج مأطرة على العقل العربي، خاصة لو تم نقل الروايات المقروءة إلى شاشات السينما والتلفاز، أو فيما لو  تم تقرير اتجاه كتابي محدد لأنه إما  مع أو ضد السلطة القائمة. 

عدا عن مشاحنات الأقلام الكبيرة بين بعضها، واستقطابات الساسة للكتّاب ومنصات النشر، وذيوع موضة " ما يطلبه القراء" ثم " ما يطلبه المشاهدون" ، والتسارع لملأ النهم الجماهيري الخارج من جمود مجتمعي شامل بكل غث وسمين، ثم مع تدافع عجلة المعيشة واستغلال النشر الكتابي كمصدر ارتزاق سواء للكتّاب أو دور النشر؛ كل هذا قد حاك مبكرا أفول هيبة القلم مع استشرار المتجارة بالأفكار مما أوهن القريحة القرائية والكتابية على حد سواء، وهو أبرز ملامح عالمنا الثقافي اليوم. 

هل حسنة ذلك الزمن علينا اليوم: أنه كان كافيا أن استمرت المطابع في النشر ، أيا كان مستوى المنشور، لأنه من الخطورة التوقف عن الكتابة والنشر ثم القراءة! كان ذلك ليعيد المجتمع العربي لأمية قراءة عامة تزيد على أمية القراءة والكتابة الشائعة وقتئذ؟! ربما، ففي النهاية، كل زمن له أحواله كما له رجاله. 

ما نقدمه هنا، ليس محاكمة لأي عصر، ولكنه نقد مكفول به لكل جيل، ما دامت الثقافة تراكمات من الأثر والمؤثِّر، ولا انفصال بين سابق ولاحق فيها. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )