مذاقات كتابية- الكتابة وقتيًا
في طور النمو، إذ نكبر واحتراف الكتابة هو منتهى حلمنا، تلاعب الكتابة الحكمة في وعينا: فالكاتب هو الحكيم ولابد! بل إن الكاتب يتحلى بما يفتقر إليه الحكيم: وهي الشجاعة، فالحكيم آثر الجبل في حين أن الكاتب ارتمى على كل زاوية مأهولة بالناس ومآسيهم!
وإذ من المفترض أن كلام الكاتب لا يمازجه سوء التقدير ولا قصر النظر؛ كيف وهو الكاتب الذي عمله أن يفيد الناس برؤى تساعدهم على إدراك حياتهم من منظور أكثر اتساعا و أعمق فهما.
لذا، كان الكاتب - بحسب هذا الظن- لا محيص وأن يكون قد بلغ من العمر مبلغ الكمال رَوِيَّةً، كما أن الصدق هو معامله الوحيد ليحول الصورة الناطقة للحياة حين تصمت فلا تزودنا بالإجابات، عدا عن مراكمة الخبرة المعرفية، وما اكتسبه من مراقبة تقاليب الأقدار بأهلها؛ وهو ما يكسبه رؤية بعيدة النظرلما هو حاضر وآنيٍّ ووقتيٍّ في لحظتنا المعاصرة.
الكاتب هو ذاك الذي ينسج من الظروف العاجلة نسجا تجريديا للحكمة المصطفاة من الأحداث، إنه يفسر لنا السير الضخم للكون والإنسان متمثلين في الحياة كأحدوثة أزلية ينعت أولُّها تفصيلاتِها، وبألوان الشقاء فيها نجدد الفرح يقينا بأن الثابت سيظل هو الباقي، وإنْ ماجت الأفواه بأصخب ما لديها.
هذا الكاتب ، وبهذه الصورة المتفردة، لا يشابه سوى الحكيم مدى العصور، ولعل وصف "الحكيم" إنما هو الاسم القديم لمسمى "الكاتب" المعاصر؛ الشخص الذي يسمعه الناس ويفهمونه لأنهم يعلمون بأن لديه بصيرة ترتقي بهم، فتصبح كل أحلامهم أن يصيروا حكماء، أي كتَّابا! ولهذا كنت أحلم بأن أكون حكيمة، يعني كاتبة.
وعلى هذا درجتْ الأمور تعظم في مخيلتي. فكنت كما أني ألتهم كل مقروء، أراقب بتؤدة المشهود مما تعطف به الأيام حياتنا، وأعود وأتملَّى أقوال الحكماء الكاتبين فيما يرون مما هو قائم وحادث وحاصل.
إلا أن الإنسان لا يخلو من مقابلات، حتى وهو يكتب!
وبدأ الكتَّاب يخطئون، ويرسلون المراجعات تلو المراجعات في إعادة النظر فيما كتبوا ونشروا من آراء استهلكت عقودا - حرفيا- من عمر الكاتب والقارئ ووسائل النشر عبر الزمن. فهل ترانا نرتضي للكاتب أن يتراجع عن أرائه شأنه أي صاحب فكر حر مكفول له منجاة العودة عن الرأي وتقليب وجهات النظر كلما نضج واحترق، أو ربما انزوى وتأمل واعتزل!
وللصراحة ، وبالألم، أقولها: بأن الكاتب ليس من حقه أن يتراجع عما كتب، كما ليس مغفورا له أن يغير رأيه ولا أن يجدد وجهة نظره، من حيث أنه قد كتب وانشر وانقضى الزمن على ما كتب ونشر!؟
دعنا نقرر خصيصة فارقة بين الكاتب وآخرين من أهل الحرفة الفكرية. فالعالِم في الدِّين همُه الأكبر أن يصل إلى فتوى يقف بها بين يدي الله سبحانه أولا، ثم يصلح بها حياة الناس، فإذا هو غيّر وتراجع عن فتواه فلشروط منصوص عليها عند أهل الاختصاص في الدين، يعلمون بها شروط المفتي ابتداء، ثم شروط قبول الفتوى، ثم مدى صلاحية المجتهد للاجتهاد في الدين.
وكذلك الأمر عند عالم العلوم في الطبيعة، فالمختبر من جهة، وتطور أدوات البحث، واتساع فروع تخصصات العلوم كل يوم، يجعلنا نقبل تغير النظريات العلمية، بل إننا نطالب بهذا التغير لأنه سنة الحياة المتطورة، ونحن نريد أن نعيش التطور.
لكن الكاتب، يعلم منذ البداية أن أداته هي رويته الفكرية، وأن نتائج تجاربه هي حياة الناس الشاخصة أمام عينيه، وأن الكلمة التي تخرج منه لن تعود إليه ولكنها سترسخ في رأي الناس عن حيواتهم، ولعلهم يختارون قرارا، ويؤيدون دعوى، ويميلون تجاها غير اتجاه؛ لا لشيء سوى لأن هذا الكاتب شرح وفسّر وانبرى معلم الفكر ومحامي الأحداث في وقت واحد، حتى إنه حملهم قناعة على اتخاذ ما ظنوا أنه قرارهم الحر! فكيف لنا بعد هذا أن نوافق له بأن يتراجع لمجرد أنه قد بدا له ما لم يكن باديا من قبل؟!
ويكشف التناقض عن مخياله المتطرف، حين يحج الكاتب نفسه بالقول: بانه ابنه لحظته، وأن الكتابة صنعة "وقتية" تولد مع الفكرة وتموت في الكلمة! فهلا -أيها الكاتب- أعدت الزمن لتعيد فهم لحظتك، أو لحظة الناس، الذين كتبت لهم منذئذ وحتى اليوم!
الكتابة من قبل ومن بعد، هي صوت تأثيري جماهيري، وليست ممارسة منزوية في معمل أو زاوية أو مؤسسة أكاديمية، إنها المهنة التي تنمو كالعشب على ضفاف المجتمع، وتستمد قوتها من أن تتحلى بفائق الحساسية ودقة المشاهدة لما يخفى عن العموم ويعمى عليهم. كما أن الكاتب يشكّل بفعل التراكمية الخط الفكري التاريخي للزمن الذي يعيش فيه، فنحن نحكم على الزمن بما كتب فيه: كتب العلوم البحتة، كما كتب الرأي العام ومؤلفات نقاش الأفكار والنحل.
وهدفنا هنا أكثر من مجرد تجريم فعل "التراجع عن الرأي" عند الكاتب، أو التكذيب لبدعة "الكتابة وقتيًّا"- بل إنه يتجه بأن يتم احترام الكتابة "منهجية" قبل أن تكون مهنة ارتزاق، أو واجهة دعائية للشخصية أو الاتجاه السائد. لا ينبغي أن يتقدم للكتابة إلا أهل الفكر الرصين الذي عركت الأيام رؤاهم، وانبرت لغتهم لكثرة الأخذ والرد في تضاعيف الأفكار، أما استعجال احتراف الكتابة لمجرد مهارة "تزيين" الكلمات، أو بسرعة قراءة بعض الكتب والتقاط ما شذ وعقم مما هو منشور على الإنترنت، فهذا لا يرسخ قوة فكرية نستطيع الاستناد عليها عندما تهاجمنا الخطوب - وما أكثرها- كل يوم.
مهول أن نرى كتابا كبارا يتراجعون -تحت ضغط الشارع- عن صوت العقل، وخطير أن يراهن أصحاب القرار على تأييد هذا الكاتب ومتى ينبرى في اتجاهاتهم، أو أو تصبح كل فكرة الوجود عند الكاتب في نفسه؛ معقود بعدد الإعجابات ومشاركة النشر لما يكتب على مواقع التواصل الاجتماعية، وكأن الشيوع والذيوع التي هي غالب دأب الغوغاء قديما وحديثا، قد صارت مطعوم الكاتب الذي يقيم عليه قلمه ولا غير.
عذار، ولكني لن أقرأ لكاتب تراجع عن رأيه مطلقا.
تعليقات
إرسال تعليق