قصة الشيطان

 





ما كان ليهيء لنا يوما أن تصبح قضايا الجن والشياطين ضمن أطروحاتنا الفكرية التي نناقش كما ننقاش أمور الاجتماع والاقتصاد والأدب  عامة!؟ ذلك أن هذه الأطروحات هي من جملة  مباحث قضية الغيب الكبرى، وما دمنا قد سلمنا بأن الله هو الغيب، وأن ما غيّب الله عنا من عوالم وأقدار، فلا مجال لنا للكشف فيها فضلا عن التسلط عليها؛ فإن هذا الاعتقاد بالتسليم التام لله فيما غاب عنا على مرادِ مطلوبِ الله منا من الإيمان بالغيب، هو الموقف الوحيد الواجب علينا اتخاذه لِنَسْلَمَ أولى وآخرة من تبعاتٍ لا حول لنا فيها ولا قوة عليها. 

ولكن، ومن منحى آخر، قد نقول بأن الغفلة عن الشيطان وكيده هي من مكائد الشيطان أيضا؟! فكون الإنسان يعتقد بأنه في مأمن من تسلط الشيطان عليه، هذا بحد ذاته مخالف للمعتقد السليم جملة، وهو الوارد في قوله تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين"، وكما جاء في السنة الشريفة من أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، عدا عن الأمر بتعهد التحصين الشرعي صباح مساء وعند تغير الأحوال حماية للإنسان من تسلط الشيطان وأعوانه عليه. 

من هنا ننتهي إلى أن المنجاة من الشيطان وكيده هي معركة مستمرة حتى قيام الساعة بين جنس الإنسان وعوالم الجن الخفية والشياطين المردة، لأن هذه المعركة داخلة في صلب قضايا التوحيد، فصراع الشيطان منذ أبينا آدم هو صراع عقدي وإن كان مدخله تمنية بالأكل من شجرة الخلود! فالاعتقاد بفكرة أن ثمة جلب نفع أو دفع ضر لم يخبر الله به آدم عليه السلام وزوجه- وذريته من بعده هي في ذاتها انحراف عقدي يسوغ دخول الشيطان حياة هذا الإنسان من مداخل عدة. 

واليوم، وسيستمر كل يوم، اتساع مداخل عدة للشيطان في حياة أبناء آدم، فعلوم الطاقة وخزعبلات الوعي والكشف عن المستقبل وقراءة الآفكار ، وإشراك الكون في التصرف من دون الله، والقول بتأثير الأسلاف على حياتنا، والاعتقاد بقوى التأثير العلوية والسفلية؛ كلها دائرة في حيز إغواء الشيطان للإنسان، وإن تلبسّت بالمعارف والعلوم مما لا نفع فيه بوجه للإنسان. 

ولأن تتبع هذه المداخل يستمر ما دام الإنسان في دار التكليف الدنيوية، فإن قطع الطرق على الشيطان أولى من الضياع في تتبع شركه، حيث أن التيه في تتبع هذه المداخل هو أيضا من كيد الشيطان، فكم توسعت أقوام عبر التاريخ في إحصاء خطوات الشيطان ظنا منهم أنهم يحذرون منه، في حين قد لبس عليهم فدخلوا فيها واسعا غير راجع. 

والنكتة في دخول الشيطان على الإنسان  تكمن في: احترس من نقطة ضعف تكون مدخلا للشيطان إليك وعليك!

نقاط الضعف، مما يصيب الإنسان في نفسه وعقله وقلبه، هي مما يمنّي الشيطان به الإنسان. فمَن لديه نقطة ضعف تتمثل في الطمع الحثيث في متاع الدنيا، هو لابد سيقع تحت تسلط الشيطان عليه من باب الدنيا. ومَن كانت نقطة ضعفه الخوف الشديد من توقع السوء وتوهم المستقبل، فإن الشيطان يدخل عليه واعدا ومخوفا كذلك من هذا الباب. وقس على ذلك التعلق بالصور والأشخاص وكل ما هو داخل في "الهوى" المذموم بالمطلق، والعشق المحرم، والحسد والبغضاء والشهوات، مما هي كلها من أدواء القلوب، فإنها في ذات الوقت مرتع الشيطان وموضع جذبه. 

والخلاصة هنا، أن يتحرى المسلم والمسلمة بواطن ما لديهم من أفكار تشذ مع تقلبات الدنيا، وأحوال نفسية تفور بها مشاعر مؤذية، وحتى ظنونا فاسدة وتخيلات باطلة حول فكرة الحياة مع الإنسان، لأن هذه البؤر الداخلية هي بالضبط ما يتم تسليط الشيطان على الإنسان بسببها، فالشيطان يتتبع الإنسان لأن الإنسان هو شغله الوحيد على هذه الأرض، وعلى وعد إغوائه عاش ويعيش. 

لذا، فإن التكذيب بغواية الشيطان هو من مخالف الفهم الصحيح لقصة وجودنا على الأرض، ولكن الاعتقاد بقوة الشيطان على الإنسان هو كذلك من أعظم الغوايات التي يسقط فيها الإنسان بعد هداية. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )