التاريخ الشخصي لأرضٍ ما (1)/ الأصالة(أ)
هذه سلسلة وليدة من الكتابات التي أبتغي منها قراءة الحياة كما حُمِّلتُها من الأرض التي عشت عليها. ولست هنا بصدد الكتابة عن تاريخ هذه الأرض وجغرافيتها، ولعل الأرض هنا هي رمزية لما قام فوقها من سيرة وحكاية، ذلك أننا في بشريتنا تختزل الأرض استطراد وجودنا لنخرج أشبه إما بالمدمجين بها أو النافرين عنها، إلا أنها حاضرة حتى لو أننا تنكرنا لها وهاجرنا منها.
ولعل الالتصاق بالأرض/ الحياة الذاتية، هو رغبة في العثور على "الأصالة"التي أتخلى عبرها عن الملاومة ذات الاتجاهين بين ذاتي وقدري، أو الوجهين المتقابلين بفكرة واحدة: وهي أنا، فيكون أحدهما ذاتي، والثاني كل آخر غيري. للحق، لم أكن يوما ذات هوس بعراك مع الخارج، ولم أر أن غايتي كانت التطلع المفرط للبعيد، صحيح أني عانيت من تكرار عقدة "إثبات الذات"نوعا من الانعكاس عن اتجاه التغييب الذي مشى معي مشوارا غير قصير من بكارة سعيي، ولكن حتى هذا لم يخرج ولا بصورة قريبة من صراع، أي صراع، على أي مستوى! لربما لإيمان طفولي متعقل بأن الله خلق الحياة تسعنا جميعا، وأن الاقتتال على وقت الحياة ومدخراتها هو نوع من الكفر بالله وحكمته. ولعل هذا يقرر- لك ابتداء أيها القارئ- أن إيماني لم يفارقني يوما فيما سأكون بصدد كتابته هنا، لا على وجه القداسة فيني، ولكنه إدراك تفتق في روحي منذ خرجت إلى الدنيا وكان عليّ أن أتعامل مع قدر من العطب الموروث فيني.
ولكني هنا أخرج من أرضٍ ما، إلى عالم الشابكة العنكبوتية لتقارب بين ما أتحدث عنه وما تزخر به عقد هذه الشابكة من محتوى ليس فيه وجه للأصالة بحال. يوم خرجت الإنترنت، ظهرت مبادرات بدعم من حكومات عربية تنبأت بما سيكون عليه عالم الويب من اكتناز في المعطيات، هذا المعطى الذي اتخذ اسما ساحرا ومسموما على حد سواء؛ ( المحتوى). فكان التساؤل الملح: ما مستوى وحجم المحتوى العربي المتوقع على الشبكة التي من المفترض أنها ستصبح مسرح العالم، تُقتسم فيه الأدوار "بفرض الذات فرضا" وليس بمن أنت عليه في الحقيقة أو في الواقع والتاريخ .
وانتشت الإنترنت من المحتوى العربي، وبالطبع لسنا هنا بصدد دراسة هذا المحتوى، فإن البحوث شأنها مدارس البحث ومؤسساته الاستقصائية، ولكن بعاجل النظر إلى موقع مثل : منصة المقاطع المصورة (يوتيوب)، نتلمس ضحالة الإيمان بالأصالة عند منشيء المحتوى على المساحة العربية الواسعة. ذلك أن الغالبية من القنوات قائمة على فكرة تكرار قراءة التاريخ الماضي ، القريب والبعيد، وحسب. حتى لو كانت تقنيات الاخراج متقدمة في الصوت والصورة، ولكن المضمون هو ذاته الذي اهترأ منذ عشرات السنين وتجدد اهتراءً مع فورة المحتوى. إذ ما بين كتب صوتية قد استقرت قراءتها عشرات المرات، وما بين تتبع لما خفي من الجرائم والمشكلات، وإعادة النقد الفني للمنتوج السينمائي والإعلامي عامة، أو تقديم قصص من الطرافة والغرابة ونبش الأسرار؛ تشبه كتبا سادت في مرحلة التسعينات وكان كل همها أن يدعي الكاتب أنه قد أحاط غيبا بما خفي عن القارئ البسيط! هذه التداول للمتناول والمتاح والمكرر قد أتخم الحصة العربية في عالم الويب بما يخلو من الأصالة حقا! فأنت كمنشئ للمحتوى أين قلمك الخاص؟ أين فكرك الذي من المفترض أنك قد انتقلت به مرحلة تالية بعد حشد كل تلك الماضويات فيه؟ لا يوجد قناة واحدة لا تنقل شيئا عن آخر، ثم آخر عن آخر، وكأننا في احتفال من الاقتباسات كل ما فيها أن ذوق المقتبِس لا القارئ، هو ما يحكم التلون والتنوع، وإلا فالخميرة واحدة!
ولأن الأمر هنا في الإنترنت يتبع الاسم الأكثر رواجا، تجد القنوات التي تتناول هذا المحتوى تضمن أعلى المشاهدات والقراءات والمتابعات تبعا لقيمة ما تناولته من محتوى حول الاسم الذائع الصيت! فأنت من المؤكد ستدخل على محتوى يتحدث عن نجيب محفوظ، في حين لن تتكلف متابعة كاتب جديد يكتب محتوى بفكرته الخاصة!
إن ما حدث في عالم المطبوع من الالتزام بأسماء محددة، يحدث اليوم كذلك في عالم الويب. وهكذا نرانا في إصرارا على عدوى أنفسنا بأنفسنا، فمِن كاتب تطلبه دور النشر لأنه كتبه "تباع"، إلى ذات الكاتب على منصات القنوات الاجتماعية لأن اسمه "يذاع"ّ! فلا عجب حينها من أن الركود سريعا ما ضرب المحتوى العربي عبر الويب، مع أن الشابكة كانت فرصة ثرية للدفع بالذوق العام المتواجد علبها نحو استكناه مجاهل غير مطروقة في الفكرة، والكلمة، والذوق الأدبي.
وإذا ساءلنا أنفسنا لماذا نضيع على أنفسنا فرصة المحتوى الأصيل؟ أو نشر الإبداع الأصيل الذي يتقدم به من يبتغون بناء قاعدتهم الجماهيرية على هذه المنصات ؟
لعله الخوف! ما نزال في خوف من أن نضع بصمتنا في العالم المتسع للإبداع، لأننا ببساطة نقارن أنفسنا بتلك الأسماء المؤرخة، وهذا للأسف ما يزيد في تقريره المحتوى المقتبس والتكراري، فهو يمارس نوعا من القهر النفسي الخفي على كل ما يخطو نحو نشر إبداعه على هذه المنصات التي تم حجزها فعليا.
إن الهواجس من نحو: هل سيقرأني الغير؟ هل سأبني صوتي الخاص في عالم الإبداع؟ كيف سيتلقى عموم المتلقين ما أقدمه من كتابة أو فيديو أو إبداع؟ كلها مرادوات نفسية تلازم كل الكتّاب في مختلف مراحل إنتاجهم، وعامة المبدعين كذلك، ولن يتخلص منها أحد مهما بلغ شأوا في تنقيح إنتاجه، ما لم كنا نتحدث عن الذين انتهوا من سعيهم في التأليف الإبداعي.
التأثير التجاري هو حاضر ولا شك في توليف منصات النشر عبر الويب! فهذه تقنيات هدفها الاستقطاب والترويج، ولذلك فإنها في ذاتها عامل ضغط على المبدِع لتقديم السريع ، وليس بالضرورة الجيد، من عمله كي يحتفظ بوتيرة التفاعل عالية مع المتلقي الذي ليس من السهل الاحتفاظ به في عالم الازدحام الرقمي! ومع هذا، فإن المبدع الأصيل لا تغره موضة التسارع في العرض والطلب، بل إن تقديم المحتوى بصورة منتظمة يوميا أو أسبوعيا، هو مما يدل على "صناعية" المحتوى لا أصالته وفرادته.
ونحن هنا لا نمارس دكتاتورية النشر، فالنشر عبر الويب هو سوق مفتوحة، ولا بأس من تعدد أشكال النشر، ولكن لابد من أن يكون صاحب المحتوى الإبداعي الأصيل غير المكرر في درجة أعلى من حيث تقييم الجودة ومرتبة الإشادة على هذه المنصات. ولا أدري حقا كيف يمكن تفعيل هذا الأمر، سوى أن يتحلى المبدع أصالة بالشجاعة والصبر لتقديم فنِّه دون التعويل على التحصيل المادي السريع خلف النشر التكراري.
هذا كان استطراد لفكرة الأصالة المزاحمة اليوم على الويب. ولنعد إلى "الأصالة" في الحياة الشخصية على أرضٍ ما.
يتبع..
تعليقات
إرسال تعليق