الفكر الإسلامي واللا-عودة

 



حين أتحدث عن مصطلح "الفكر الإسلامي"، فإني هنا أتناول معنى انتقلتُ في طياته، ومبنى أشربته كيانا كليا على ظن من الإيمان بأنه الحصيلة النهائية ومحل الثقة لفكرة وضع الإسلام، ومن ثم  الحياة في ظل الإسلام، موضع البحث والنظر. 

ولست هنا أعيد تعريف هذا المصطلح، ومدى ما شابه من اتساع عند مختلف الأقطاب، إلا أن ما انتهى إليه هو أنه يُظهر ما بطن من نظرة الإسلام إلى ما يهم الإنسان، عامة، والمسلم خاصة في صلاح معاشه الدنيوي. 

والتحدث عن بواكير هذا المصطلح والسيطرة التي كانت له قبل عشرين إلى خمس وعشرين عاما مرت، يشوبه التشعب الذي لا بد هو مخل بشمولية التحولات مما أصاب هذا الفكر المنعوت بالإسلامي تماشيا مع فكرة "الأسلمة" التي تمنطقت بيان تلك السنين. غير أن ما أخلص إليه بأن مصطلح الفكر الإسلامي ومؤداه لم يكن سعيا حميدا، وإن كانت النوايا صبعته بالخلوص وحسن الظن. 

عندما أخذ المصطلح بالانتشار في الدول العربية خاصة، والإسلامية بالعامة، تنازعه اتجاهان متقابلان: 

الاتجاه الأول: القبول بالكلية/ وهؤلاء وضعوا له مؤتمرات ومجلات ودوريات، وحتى لو أنك دخلت المكتبة القريبة في بلدك فإنك ستجد معلما خاصا بالكتب التي أدرجت تحت مسمى "الفكر الإسلامي". عدا عن دور النشر التي اكتفت بأن يكون المصطلح هوية لها واسما. 

الاتجاه الثاني: اتجاه طلبة العلم الشرعي وجلة من العلماء المجتهدين الذين رأوا فيه علامات استفهام عقيم، عجز  أن يقدم لها المصطلح في ذلك الحين إجابات موفقة: هل الفكر الإسلامي هو اتجاه للدراسة على غرار الفقه والعقيدة وأصول الدين؟ أم أنه بلا هوية علمية، ولا تحكمه المنهجية الشرعية المتواترة في دراسة العلوم الشرعية مما انتهى إليه تقرير أصول البحوث الشرعية بالمجمل؟!وبالتالي، فإن الرفض بالكلية كان اتجاه هذه الفئة.

وكالعادة، ما بين مؤيد ومعارض، يظهر هذه المرة موقف ثالث، ولكنه ليس موفقا توفيقا كما اعتدنا بمن يمسك العصا من المنتصف، بل هو موقف مراقب يريد أن يفهم - بحق وبصدق- ما هو الخير لدينه، ولكيف يفهم دينه فهما لا يحرمه بركة المتوارث في العلوم الشرعية، مع انفتاح على لغة عصرية يتطلع إليها في حواراته الفكرية مع ذاته المسلمة داخل عالمه المتغير. وهؤلاء هم فئة الشباب في ذلك الوقت، الذين كانوا ، في نظري، الأكثر حرصا على تتبع ما يصلح هويتهم الدينية أكثر من وقت قادم بعد ذاك. 

الفكر الإسلامي قضى عليه أهله المتحمسون له بأنفسهم! وهذا حين انتهى البعض بالغلو للقول بأن الفكر الإسلامي بديلا  عن الإسلام! فمنذ مراحل مخاضه الأول كانت الهلهلة السمة الأولى التي يراد إقرارها لهذا المبحث الفكري. ولم تكن المشكلة في الموضوعات التي يراد أسلمتها لتدخل هذه المنظومة، إنما هي العشوائية في تخصصات المتناولين له: فأنت واجد كل من يريد التحدث عن الإسلام أو في قضايا الدين يدعي أن مقولاته داخلة في شعب الفكر الإسلامي حتى لو أنه من غير أهل الاختصاص للبحث في الشرع! صار الفكر الإسلامي نفقا يتسلل منه القائلون بأرائهم تملصا من منهجية البحث الشرعي وقواعد النظر العلمية التي دار عليها الاجتهاد في الإسلام. 

يقدم هذا المعجب رأيه في الإسلام جملة وتفصيلا ثم يقول لك: أننا لست فقهيا ولكني مفكر إسلامي! أي أنهم من البداية قد أدركوا أن مصطلح الفكر الإسلامي ما هو إلا مطية الولوج غير المنضبط في القول في الإسلام؟!

ولعل العلماء حقا الذين انضوا في مظلة الفكر الإسلامي كانوا على حسن ظن به كذلك. فهم أرادوا أن يعمقوا أفكار الناس حول الدين بوجهة أكثر حداثة من منطق الفقيه الشرعي، ولكن في تصوري ، أنهم انتهوا في نهاية حياتهم إلى التمسك بهويتهم العلمية الفقهية لأنهم أدركوا أن الفكر الإسلامي لا هوية علمية فيه. 

ولعلنا نقول أن ذاك زمن مضى، وأن المؤرخين في أحوال المعرفة سيجدون سبيلهم يوما ما للحديث بشكل أشمل  عن تلك القماشة المليئة بخروقات الانتحال وهم يتناولون الفكر الإسلامي المعاصر، وكيف انضوت القنوات الإعلامية ذات الأسلمة، والأصوات غير المتخصصة في الدين ولكنها تريد التحدث في الدين، وعدا عن المسوِّقين لأنفسهم بين الجموع المسلمة المحتشدة حول كل ما هو بطابع الأسلمة فتربحوا ولم يُربِحوا بمقولات شافية للناس في صلاح دينهم ودنياهم! كل هؤلاء سيحاكمهم عقل مؤرخ العلوم كما هو المعتاد في كل زمن ينقضي بعبره ودروسه المستفادة. 

غير أن ذلك لم يختم حقا؟! بمعنى، أن ذات الأصوات ما تزال من بقايا تلامذة ذلك الاتجاه تعود لتفرض نفسها على الساحة ميسّرة عبر وسائل الإعلام المتاحة عبر الإنترنت، لتقدم ذات الأطروحات بذات اللغة، وذات التناول التشعبي المهلهل، حتى وإن كانت تخفي مصطلح الفكر الإسلامي لأنها - أكثر من غيرها- قد وعت أنه مصطلح مشبوه ومشوه منذ إعلانه ماضيا. 

أبرز سمات هذه الفئة المستجدة، هي أن أسلوب معالجتهم للقضايا لم يتغير، فهم قد رسخت عقولهم على زوايا محددة أقفلوا عرضهم عليها ، وما يزالون يسِنّون نفس روح الأقلام التي يكتبون بها اليوم أو يتحدثون بها ! وبعيدا عن أي تسميات أو ألقاب فإنه يكفي أنهم على دأبهم القديم يتناولون النص القرآني ويحملونه مالا يحتمل من أفكارهم القاصرة! وإذا كان المخوف في اتجاهات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ هو تحميل النص مالا يحتمل، غير أن أنصار الفكرية المحدثة تناقلوا هذه الجرأة  عن سابق عهدهم في زمن مجدهم المنقضي، وما يزالون يرون الآية والحديث محتملة للتأويل من كل اتجاه سوى الاتجاه الأول الذي ليس من سبيل لسواه لفهم النص، وهو طريق الفقه الشرعي، والفقه هنا بما يشمل البحث التخصصي في علوم الشريعة مما استقر عليه أمر هذه الأمة في كل زمان حتى اليوم. 

إن التقعيد لعلوم الشريعة سار عصورا مخضرمة، حتى استوعبت الذهنية المسلمة بأن من يتحدث في الدين لابد وأن يكون من أهله، وتحت مسمى واضح يحكي أهليته العلمية المعتمدة عند أهل الاختصاص: فقيه، مفسّر، محدّث، مجتهد. وليس كل من قال فهو قائل!

والخطورة التي راكمها المتحدثون في الإسلام من كل التخصصات غير تخصص الشريعة ذاتها، أن أي مراجعة يتم تقديمها على أرائهم المنساقة على غير هدى، فإنه يضعونها في الطائفية، والتي دون أن يشعروا بانهم ساهموا بقوة -أكثر من الأعداء- في ترسيخها نهجا في الحكم على المعارض لمنهجهم! فمن يرفض هذه العشوائية في التخصصات العلمية يعتبر "سلفيا" منغلقا، ومن يرفض علماويتهم غير المنضبطة أيضا بروح العلم فهو "علماني" متطرف! وقس على هذا ما يغرقون به العقول حين تستمع إليهم وهم يقولون: فلان هذا قوله، والطائقة الفلانية هذا قولها، والزمن الماضي هذا قوله..؛ وهذا قولي أنا؟!

هذا السلوك في نمذجة الإسلام بالأفكار لهو من الخطورة بمكان لا يمكن التنبؤ بحدة ما ينتهي إليه حين تخيب هذه الآراء في نفوس أهلها أو السامعين لهم! وكفانا دليلا أن ما نعيشه اليوم من هلهلة فكرية لدى الشباب المسلم مرجعها يبدأ من زمن قريب مضى، حين ارتقى أصحاب الفكر الإسلامي منابر ليست لهم، وأرسوا اجتهادات قاصرة قصورا علميا، فخلطوا وخلّطوا على الناس صفاء دينهم ويسر ما فيه . فاعسروا حين ظنوا أنهم ييسرون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )