اللعب بالعبث

 


ما يدمر الإنسان، ومن ثم الحضارة كلها، هو شيوع العبث في أسلوب تفكيرها، حتى ليصير واقع معاشها بكل تفصيلاته!

والعبث هنا ليس انتشار الملهيات، والولع بقشور الحياة، أو السعي في الوهم؛ فهذه كلها سمات بأن المجتمع قد بات عبثيا فعلا. 

العبث هو الاصرار ، هكذا الإصرار، على رؤية الإنسان على غير حقيقته، فكل واحد منا يريد أن يرى الآخر كما هو يريد أن يراه. هذه الجريمة بإلزام الشخص ملامح ليست له، وما يتبع ذلك من طريقة الحديث، والميول الخاصة، وحتى أساليب العيش اليومية؛ إن فرض النمط غير الأصيل على إنسان ما لهو أقصى صور العبثية بهذا الكائن! 

عندما يقف أمامك "الممثل" في عمل تمثيلي ينال استحسانك وتصفق له، فأنت تظل تضبطه بهذا الدور، بل وأنت ترفض أن تعترف له بوجوده الحقيقي خارجه! وهذا الهوس بالضرورة هو قائد كل من الممثل والمراقب أو المشاهد، إلى اجترار الكذب الطويل على طرفي الوجود: الممثل يود الاستمرار في المهنة، والمتابع يود أن يصدق بوجود ما يشاهد! وحين يصبح الوجود بحد ذاته فرضية للنقاش فأنت في النهاية تكون قد رميت بقصة الوجود كاملة تحت قدميك!

والشكل المشاهد للإنسان الذي يعيش العبث أنه المهرج أو البهلوان أو لاعب المساخر الذي كل همه أن يرضي الناس ويضحكهم، حتى لو كان  هذا غطاء لأعمال قذرة يقوم بها في صراع مع نفسه أو مع المجتمع. أما الجماعة والمجتمع التي ترتضي بالعبث سياسة اجتماع فيها، فهي تصير كالمسرح المفتوح على مدار الساعة لا يغلق، وكل من هب ودب يعيث فسادا في عقول وقلوب أهله! سخرية ساخرة من ظلاميات العصور الوسطى، وأبرز أيقونات مراحل الانهيار الأخيرة لأي حضارة!

نعيش العبثية حين نريد أن نسمع ما يروق لنا لا ما هو حقيقي ونافع وأصيل. 

نعيش العبث إذ نجعل كل همنا أن نحظى بالتصفيق من الآخرين، ونرانا ننتشي بتلك الزخرفية الكاذبة  عن بطولات المراوح الهوائية. 

نعيش العبث إذ نهدر قيمة الإنسان، وتصير المادة بكل أشكالها، أعلى في حساباتنا من خديعة الإنسان أو قتل روحه وإهدار دمه.

كل أمة تأتي تخترع  نصيبها من العبث، لأن العبث هو دورة حياة ، الحلقة الأخيرة في حياة أمة ما  قبل انطواء سجادة التاريخ عنها، ولكن الخلفية تظل ثابتة في كل قصص العبث: أنه الفساد ينتشر في غيبوبة الحق. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )