الأسى الأمض

 








تٌرزَق في هذه الحياة، والحياة كلها رزق، من يجعلك تشعر بالأسى على نفسك! الرزق ليس ذلك الرغد الذي لا تشوبه شائبه الحزن تارة، والفرح تارات أخر، ولكنه الذي تطمئن  فيه بأنك ما تزال تملك حدة التذوق لتفرق بين مرارة الانكسار، وحرارة الرغبة في الخروج منه. 

نتصور عدة مرات، بأن العلاقات الإنسانية ما كانت من حكمة لها في أن تٌخلُق إلا لتمحيص صبرنا على ما يفوقه. ذلك أنك لو تابعت حيوات أهل الخبرة بتقلبات المصير، فإنك ولا بد ستخلص إلى أن معاناة الإنسان مع الإنسان، وفي الإنسان، لهي أكبر داهية الزمن الذي يحياه كل منا. 

الذي يجعلك تشعر بالأسى على نفسك؛ من هو؟! بأي قدرة منحته كي يملك من نفسك أن يذل نفسك؟ هل هو حبيب غدر وفارق؟! أم وليف لم يكن على قدر ظنك وحلمك؟! أم صغير الحال في حين كنت أنت كبير الانتظار؟!

في حسباني المحدود، فإن من امتلك أن يذيب قلبك أسى على نفسك: هو ذلك الذي تمكَن من أن يقلب عليك عواطفك، أو بمعنى أجل، مَن وهبت له إدراكك ليعيد رسم ما تدركه عن نفسك، بما في ذلك قلبك وعقلك. 

هذا الذي أبطلنا لأجله كل مقاييسنا العتيدة، والذي طمعا منا في الاقتراب منه: نرانا خرجنا من كل ما كان مستقرا في كينونتنا، حتى لعدنا نستعذب المرار في عبثيته السوداء، وصرنا نتلمس الريح وفاقا لاحتمالات لا تنقضي معه. 

المخزي في هذه الشقلبة، هو أننا لا نشعر بفداحة ما آل إليه أمرنا من تهافت، ولكن في اللحظة التي يهبنا القدر وحده ، وأقول القدر وحده، أن نفر فرارا دونما رجعة من الضياء ذي الضباب هذا، نكتشف خسارة تلو الخسارة: أننا لم نعد نحن في اقل شيء منا!

إذ يزعجنا العٌري الذي يلفنا، ويؤلمنا ما يغزونا من صراعات الظنون والغضب، وبعد أن كنا - بحسب تصور قديم= نرى أجمل ما فينا مع هذا الإنسان، إذ بنا يهولنا حجم البشاعة التي تشكلنا بها. 

وليس الأمر مطلقأ بأن فراق الحب قد أمضنا وأجهضنا، لأن فيما قبل الفراق يصبح كل حال لنا هو أعظم حدة من مرارة الفراق ذاته، حيث يستوي لدينا الوجود والرحيل، القرب والبعد، الحضور والغياب؛ فماذا بعد الخفوت من خفوت!

ولكنه السؤال ذاته: متى سيتوقف هذا الدفق المجنون من مشاعر الأسى على أنفسنا من أن يجرنا معه إلى حيث اللاقرار. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )