فن المطالبة
في الثقافات الوثنية الشرقية، يُقال إن الوصول إلى
النيرفانا، اكتمال الحكمة أو الاتحاد مع الإله، يتحقق عندما يتوقف الإنسان عن
المطالبة بأي شيء من الحياة، على اعتبار أن الإله لا يحتاج شيئًا لأنه مكتمل بذاته!
ولأننا لا نعتقد بهذا الأمر، فإن المطالبات لهي الصدق الذي يبرهن على صحة العقيدة: إننا
نطلب من الله لأننا نؤمن بالله ، ونفتقر إليه.
لكنني أرى – كذلك- أن التوقف عن
المطالبة يعني التخلي عن جوهر وجودنا. فالمطالب ليست مجرد رغبات، بل هي إشارات إلى
الحيوية الوجدانية التي تجعلنا ندرك ذواتنا ونسعى لفهم العالم من حولنا.
حين يولد الإنسان، تكون المطالب أولى خطواته في
التعبير عن وجوده؛ بالبكاء يطلب الطعام أو الحنان، وغالبًا ما يكون طلبه الأول
موجّهًا إلى أمه. هذه المطالب البسيطة تحمل في طياتها أعمق إشارات الحياة: أننا
موجودون ونستحق السعي.
ولعلنا لا نبعُد إذ نقرر بأن الأدب ، كان وما يزال،
هو محاولات حثيثة لتقريب أهمية فن المطالبة من أذهان المتلقين، أيا كانت وسيلة التلقي،
فالأديب كل ما يريده أن ينبه ولو صراخا بأن
المطالبات هي قصص وجودنا النابض بين تسلسلات الحياة المتسعة.
- رواية "الأوديسة" لهوميروس
في "الأوديسة" لهوميروس، نرى البطل "أوديسيوس" مستمر في المطالبة بالعودة إلى وطنه ومنزله رغم الأهوال التي قطعها في رحلته. وقد تحقق له ما أراد!
- . رواية "الأبله" لدوستويفسكي
في "الأبله" لدوستويفسكي، تتطور شخصية الأمير "ميشكين" لتمثل نوعًا من الطهارة والبراءة التي تتسم بالمطالبة العميقة بالسلام الداخلي والاستقرار النفسي، في تحدٍ صارخ للظروف الاجتماعية المليئة بالفساد، حتى لتصبح العدالة ، بل مجرد الأمل في العدالة، ضربا من الأحلام !
- رواية "1984" لجورج أورويل
في "1984" لجورج أورويل ، يعيش بطل الرواية "وينستون سميث" في مجتمع ديكتاتوري حيث يتم منع كل أشكال التفكير المستقل، فضلا عن المطالبة بحرية الرأي. ومع ذلك، نجد أن "وينستون" لا يزال يحمل أملًا في التغيير، في محاولة لكتابة مذكراته، وهي شكل من أشكال المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية. مطالبته بالخلاص الشخصي هي أمل يعكس رغبة في التحرر من القيود، حتى وإن كانت النهاية مأساوية
- رواية "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي
في "الشيخ
والبحر"لإرنست همنغواي، ظل
"سانتياغو" يواجه البحر في صراع طويل من أجل صيد سمكة ضخمة. وقد ارتكز
الرواية على أن الصراع المستمر في فكرة المطالبة هي التي أيدته في اختبارات
الطبيعة .
- رواية "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست
في "البحث عن
الزمن المفقود"، لمارسيل بروست، يتمحور الجزء الكبير من
الرواية حول فكرة الذكريات والمطالبة بعودة بالماضي. إن السعي لاستعادة
لحظات الزمن المفقود هي نوع من المطالبة بالعثور على المعنى والهوية في شكل بحث
مستمر حول الذات وحقيقة الحياة.
- رواية "العطر" لباتريك زوسكيند
في "العطر"، لباتريك زوسكيند ، شخصية "جان باتيست
غرنوي" تقدم نوعًا من الجنون المباح، الذي يتحول إلى هوس المطالبة بالكمال.
يرفض "جان باتيست غرنوي" الواقع
ويبحث عن تحقيق خياله الخاص في صنع العطر المثالي. هذه المطالبة غير المنطقية،
التي تركز على الخيال والجنون، هي التي تمنحه فكرة أن يصبح "موجودًا" حتى لو كان ذلك على حساب
الآخرين.
في رواية "الأفق" لجمال الغيطاني ، يواجه بطل القصة الكثير من التحديات في سعيه
لتحقيق مطالبه الشخصية رغم قسوة الحياة. يبرز في الرواية مفهوم الأمل المستمر
على الرغم من الضغوط المجتمعية والمعوقات.
لماذا فن المطالبة؟
- المطالبات هي المحرك الأساسي
للحياة: في غياب المطالبات، يفقد الإنسان إحساسه بالحياة ويصبح في حالة
من السبات المنكفئ على ذاته ، مما يعيق تطوره ونموه.
·
المطالبات
هي الأمل الذي يُبقي الإنسان على قيد الحياة: الأمل الذي ينبع
من المطالبة بالمستقبل هو العنصر الأساسي للبقاء والاستمرار في مواجهة
التحديات.
·
التقدم
بمطالبنا يبدأ من الداخل : المطالبات يجب أن تكون شخصية وعميقة، وهي تبدأ من إدراك
الذات وفهم ما يحتاجه الفرد من الحياة. كما يجب أن تكون
المطالبات مبنية على قيم وإنسانية نسعى لتحقيقها بناءً على إيماننا بذواتنا
وبالعالم الذي نعيش فيه.
·
الاستمرار
في المطالبة دون التوقف أو الاستسلام: الاستمرارية في المطالبة (حتى في ظل
الفشل) هي ما يُبقي الإنسان في حالة الاندفاع والتجدد.
·
المطالبات
تتطلب القدرة على التكيف مع الواقع: رغم أن المطالبات قد تكون
بعيدة عن الواقع أحيانًا، إلا أنه من المهم أن نتعلم التكيف مع الحياة وأن نعدل
مطالبنا بشكل يتماشى مع التغيرات التي تطرأ على حياتنا
·
المطالبات
هي أداة لإحداث التغيير: المطالبة لا تقتصر على الحصول على الأمور المادية أو
الملموسة، بل تتعلق بتغيير الواقع أو حتى التحول الداخلي للفرد.
- التقدم بالمطالبات يتطلب الشجاعة
في مواجهة الصعاب: والعقبات بحيث لا نترك
للظروف أو القيود الاجتماعية أو الخوف من الفشل أن توقفنا عن
تقديم مطالبنا إلى الحياة.
·
مطالباتنا
تتشكل من تجاربنا الداخلية ومحيطنا: التجارب الشخصية تلعب
دورًا كبيرًا في تشكيل مطالبنا، حيث أن كل تجربة حياتية تكون محفزًا لما
نطلبه من الحياة. يمكن أن تكون هذه المطالب خارجة عن المألوف
أو حتى غامضة، لكنها دائمًا تعكس تمسكنا بالأمل والتغيير، وتساعدنا في
تحديد اتجاهات حياتنا.
·
المطالبة
هي فن من فنون العيش: المطالبة ليست مجرد طلب، بل هي فن يعبر عن إبداع
الإنسان في السعي لتحقيق ذاته في ظل التحديات. نحن نصيغ مطالبنا ونجعلها جزءًا من نمط حياتنا، سواء
كانت تلك المطالب موجهة نحو تحقيق الأهداف الشخصية أو نحو إحداث تأثير
إيجابي في المجتمع.
·
المطالبة
هي جوهر الإنسان: في النهاية، المطالبة ليست مجرد تمني أو رغبة، بل هي جوهر
الإنسان ، والروح الحية التي تمنحنا الإيمان بأن نسعى نحو الأفضل في أمرنا. إنها
الجوهر الذي يحرك الإنسان ويمنحه معنى في حياته، حتى وإن كانت المطالب تبدو
بعيدة المنال أو غير قابلة للتحقيق.
تعليقات
إرسال تعليق