العقول الجميلة- ما يشغل بالك أيها الكاتب

 






ما  يشغل بال الكاتب هو العثور على الفكرة الجوهر للنص الذي يكتبه، رواية، شعرا، نثرا، قصة، مقالة..إلخ، إنه كل ما يمكن أن يصير مادة حيوية لكتابة متوهجة وأصيلة. ولأن الكاتب كائن متعب في نفسه، فعقله لا يهدأ، وروحه تشعر بالفضول، ذلك أن عاطفته وأفكاره أكبر من أن يحيط بهم العالم بجحيمه وجنته معا. إن العوالم المتوازية التي يعيشها الكاتب ما بين الواقع المحدود والخيال المطلق، ما بين المؤقت الراهن والخالد المؤمَّل، ما بين "أنا" و"هو"، يشعل كله في داخله أرقا لتجربة أنماط من الشجاعة لا تكون إلا له، فهي شجاعة تتجاوز الأرضي، ولكنها أوهن من أن تتشبث بالانتقام! إنها "التساؤلات" لا تتوقف، بل تشكل تعليقاته تمرده على كل ما يصله من العالم الخارجي ليهز داخله عنيفا، وكأنه يحتك بالأشياء والأشخاص والأحداث لأول مرة، وبتوصيف أكثر إسهابا؛ إن الشعور الملازم للكاتب أنه يشعر بالحياة لأول مرة كل مرة! والعقل التساؤلي هو عقل تفكيكي وتركيبي في جهد موحد، وهو عقل يقترب ويبتعد ليلتقط الصورة بكليتها فيما همُّه منصب على التفاصيل. وهو عقل منطقي وفوضوي يسرق الافتراض الكامن في المنطق، ثم يعيد فرض منطقه المنفلت من كل عقال! وهو  إلى ذلك عقل قلق بطبيعة صاحبه ومأزقه مع مخاوفه بعدم الأمان تجاه الخطوات التي عليه أن يخطوها في عالم يعتمد على الذائقة الفردية المطلقة، وهي الذائقة المتنازع عليها ما بين الكاتب والقارئ؛ نراها تفجر اللا -انضباطية التي عادة ما تكون سمة حياة الكتّاب في معيشتهم وأخلاقهم وحتى آراؤهم وكتاباتهم. فيظل الكاتب ينقلب على تصوراته وآرائه كلما أنهى المراحل المتلاحقة من نشاطه الاحترافي، حيث إن هواجسه المرتابة لا تترك له حرية الركون بالاكتفاء: هل أنا جيد كفاية؟ هل ما أكتبه بذات المستوى أم يتدهور؟ حتى متى يظل قلمي قويا، وخلفه قلبي وعقلي منقادين لإرادتي في الكتابة؟ هل أنا راضٍ عما أنا فيه وعليه بالأمس، واليوم ، وفي الغد؟
عقل الكاتب عقل غير موضوعي مع أي موضوعية تطلبها تداول الأفكار في المجتمع، فهو شديد الانتقائية لما يقدِّم نقده عليه، حتى لو كانت كتابته الخاصة، وهو يرزح إلى المماطلة فيما لو تم فرض أي تقييدات عليه وإن نجم عن هذا إخلال بتاريخ تسليم مسودة الكتاب أو الموعد النهائي لقبول المقالة! إنه "الزئبق" في صورة العقل، والعقل في صورة الكاتب
إنه "الزئبق" في صورة العقل، والعقل في صورة الكاتب
إن الكاتب ليمارس الكتابة في عقله كما يمارسها على الورق أو الطباعة الإلكترونية، إنه يعيش في هذيان متصل مع شوارد بعضها يتخلّق القالب الملائم له، وبعضه الآخر جماليته في أن يظل ضجيجا في عقل حامله وحده. وعلينا هنا أن ننتبه أن الأداء الذهني للعمل، بمعنى التخيل، يساهم بشكل متساوٍ مع ما تقدمه الممارسة الفعلية، كما أثبتت التجارب على اللاعبين في مجال كرة السلة، حيث تم قياس الكفاءة لفريقين وُضِع كل منهما في واقع مختلف للتأكد من مستوى جاهزيتهم للمباراة. فالفريق الأول استمر في الممارسة اليومية للعبة جسديا، في حين عالج الفريق الثاني اللعبة في مخيلته ذهنيا بعيدا عن التدريب الجسدي. وعند الاختبار، لم يتم تسجيل فارق ملحوظ في الأداء بين الفريقين بعد مرور عدة أيام على التجربة، مما يعني أن تأثير الممارسة الذهنية لا تقل خطورة عن الممارسة المادية عند قياس الأداء

وفيما يلي بعض الأنشطة العقلية مما قد يمارسه الكاتب ويجد فيها موردا خصبا لأفكاره الكتابية

         ابدأ بسؤال الواقع الافتراضي: ماذا لو؟

دخل الواقع الافتراضي ،على شبكة الإنترنت، حياتنا محملا بتناقضه الذاتي ما بين كلمتين: أنه واقع، وأنه افتراضي! وكل يوم يصير تقبل هذا المصطلح ضرورة، ويتم التغاضي عما يَحدث من خلخلة في المفاهيم المستقرة حول قوانين بناء الواقع غير الافتراضي في حياتنا الافتراضية على الويب. وفكرة الواقع الافتراضي، ليست مجنحة في الخيال المحض، بل إنها تقوم على مكونات حقيقية نتعايش معها: نراها، نسمعها، نشعر بحيثياتها، ولكن لما كان الجمع بينها في الواقع المعاش شيئا صعبا أو مستحيلا، تقدمت الإنترنت بهذه الإضافة وهي افتراض أنها قد اجتمعت مع بعضها وتلاقت فيما بينها، فماذا هي صانعة؟! بمعنى آخر، أن الواقع الافتراضي هو توليف ما ليس بمؤتلف، على افتراض ماذا سيحدث لو حدث وائتلف! وهذا بالضبط ما يصنعه الكاتب منذ قديم الزمان. إنه يقدم لنا رؤية للواقع تجمع المستحيل والمتناثر والهلامي، لتحيله واقعا له أرض وحدود وسكان ومناخ وأشياء! وكلما افترض الكاتب ما ليس مفروضا؛ استطاع أن يحقق سَبقًا أعلى لأصالة المخيلة لديه أولا، ثم فيما يتركه من أعمال تمثل استشرافات عظيمة في اتجاهات زمانية متشابكة ومتسعة

         ولكن، لكل مشكلة كاتب


عمل الكتابة هو "التشخيص" في المقام الأول، والمقصود بالتشخيص هو دراسة الحال والخروج بالرؤى والانطباعات التي تعزز من فهمنا ،كمجتمع، لعواقب ما يعيشه هذا المجتمع في مرحلته التاريخية من تغيرات. وهذا يتطلب ذكاء خاصا قد لا يتمتع به كل أفراد الأمة. ومعظم الكتّاب الذين خلّدوا أعمالا ما تزال متداولة حتى اليوم؛ إنما انعكس نجاحهم عن تصوير وتسجيل واقعهم وما وضعوه من رؤى جاء مستقبلهم إما مناقضا لها أو متوافقا معها. تولستوي في الحرب والسلام، شخّص أطماع الحروب القيصرية في زمانه، وهمنغواي كان يستشعر الخدر الإمبريالي للإمبراطورية الأمريكية الطموح، وهيرمان هيسه سبق ألمانيا الهزيمة وما قبل الهزيمة حين أكد على التغير الكبير الذي ستصاب به الشخصية الألمانية تاريخيا. إن كل مشكلة يعيشها الكاتب بصورة شخصية أو كجزء من تيار تاريخي سائد، هي بالنسبة له عامل أرق وفكرة كتابة، فإدمان الكاتب على محاولة الفهم وإيجاد الصلات بين ما يلوح أنه مقطوع عن لحظته الزمانية وشرطه الوجودي؛ يحيله إلى استنباط المشكلات حتى لو كانت توقعاته الشخصية، لأن الكتابة بالنسبة لديه جزء من الحل الذي نقدمه لمشكلة عظمى اسمها "الحياة".

         اِلعبْ ألعابًا ذات سيناريو

ما هي فكرة القصّ/ الحكاية؟ ما معنى أننا نحكي حكاية؟ إن الرحلة في تتبع مسار الأحداث هو ما يمنح الحكاية تشويقها، ويسبغ على الكاتب الاحترافية. فما نطلق عليه "السيناريو" وهو التوالي والتسلسل من تفاعل الشخصيات مع بعضها ومع ظروفها، أوعز منذ زمن لا ندركه، إلى الخيال الإنساني بالغور ما وراء الواقع وقبول الفانتازيا. وقد انتشرت مع الثورة التقنية منذ القرن العشرين وتتابعت اليوم، فكرة الألعاب الإلكترونية التي تضم عددا من اللاعبين، يتفاعلون فيما بينهم إما فريقا أو متصارعين للوصول إلى غاية جمعية كالعثور على الكنز أو انقاذ الأميرة
واليوم أصبحت الألعاب متعددة اللاعبين على شبكة الإنترنت، من أقوى وسائل الجذب على الشبكة، وتشكل تدفقا ماليا للشركات المنتجة. وبصرف النظر عما قد تؤثر به هذه الألعاب سلبا عند الإدمان عليها، إلا أن الدخول عليها بين أوقات متقطعة يشجع الكاتب على استجلاب حوافزه في استحداث أحداث وشخصيات تنقل كتابته إلى آفاق أعظم اتساعا. ويلحق بألعاب المغامرات الإلكترونية، الألعاب ذات السيناريو، مثل : التركيبات، بازل، المتاهات. إن الدخول على تطبيقات من نحو: أب ستور، أو غوغل بلاي، يتيح للمستخدم عددا ضخما من الألعاب ذات المستويات من البسيطة إلى الأعلى تعقيدا. ومن المهم، كما سبق وأن أشرنا، أن يركز الكاتب على الألعاب ذات السيناريو الطويل


         قراءة بدون كابتشينو


لو دخلنا على موقع اجتماعي من نحو انستجرام، وتحديدا على الصفحات ذات الاهتمام بالقراءة والكتب؛ كدور النشر، أو القرّاء الهواة، أو المبدعين في بناء طقوس خاصة بالقراءة، فإننا سنغرق في بحر عميق من الصور الملتقطة لفنجان قهوة بجوار كتاب! وكأن القراءة لا تكون بغير القهوة و مذاقاتها الحانية أواللاذعة! ولسنا هنا نتحدث عن فوائد مثبتة أو غير مثبتة لعلاقة القوة بقوة التركيز العقلي، إلا أن السؤال المطروح: هل حقا أن هذا النوع من القراءة يؤتي ثماره، فيما لو قصدنا بالقراءة ما هو خارج التسلية، أو التثقف، أو الاستعراض؟
القراءة التي تتم في أصعب الظروف وتكتسب قداسة الممارسة عند أصحابها وتحفر السؤال وراء كل كلمة وقطعة في النص، والقراءة التي تستلم لأن تعيد ذاتها بمرارة ودون كلال، والتي تصيبنا بنوع الدهشة والدوران حول كل ما سبق واختزناه في مقولات، والقراءة التي تتسلّط لأن تقمعنا من أشد عاداتنا خمولا ويئسا، وتضطرنا لأن نعالج صعوبتها  منعزلين على ضوء مصباح فقير في ركن مستخفٍ قصيًّا عن أهل وولد وزوج وصديق .. ،تلك فقط وفقط تلك؛ القراءة التي ننتظر منها تحوّلا فكريا ملموسا.
فبدل أن نمسك بفنجان القهوة، فلنحمل قلما ومسودة، لنكتب ما استنبطناه، أو لنعارض تحريريا ما رفضناه
وقبل أن نفكر في نوع القهوة، فلنختر روح العزلة البصيرة بخلاصها، والقانطة من كل حبل إلا إسرافها في السكون. إن القانون مكتوب ولكن من يطبق روح القانون
ومع أننا لا نرفض القهوة ؛بل ونحبها، إلا أننا لا نثق بتعدد الأمزجة الذي تتسبب به القهوة لدى حكمنا على ما نقرأ، هل هو جيد لذاته ، أم لأن مذاق القهوة معه جعله غنيا وثريا بالرغوة
المراودات والجولات التي يصول الكاتب عبر مختلف المنافذ إنما يهدف منها: أن يستمر، ويستمر، ويستمر .. في الكتابة! وفي سبيل تحقيق الدوام في الفعل الكتابي يلزم الكاتب أن يطرق كل جديد من نظريات ومكتشفات وتغيرات في العلوم والحياة والأيدولوجيات، بل وقواعد المعاش أحيانا، لأنه يعمل على الحياة، الحياة بكليتها وشموليتها وتنوعها وتجددها، وهذا ما يجب على الكاتب أن يدركه قبل أن يحترف الكتابة؛ أن شغله مع الحياة، وعليه أن يعيش هذه الحياة ليعيد نمذجتها في كتاباته

تعليقات

  1. مقالة عالية الجودة فعلا واصلي ابداعاك مقالاتك الاخيرة كلها ممتازة ومرحبا بعودتك للنشاط المثمر

    ردحذف
    الردود
    1. حياك الله دوما
      شاكرة ومقدرة قراءتكم، واشكر كلماتكم الطيبة وتشجيعكم..
      كل التقدير والاحترام

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )